تلعب وسائل التواصل الاجتماعى، خاصة منصّة X (تويتر سابقًا) دورًا رئيسيًّا فى الانتخابات الأمريكيّة. ذلك أن هذه الانتخابات ستكون مفصليّة على الصعيد الداخلى، كما بالنسبة لمشروع استعادة الهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم، بما فى ذلك منطقة الشرق الأوسط.
داخليًّا، لا يُمكِن تناسى كيف استخدم الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب منصّة تويتر بشكل كثيف كى يأخذ بلاده إلى أزمة فى انتخاباتها الديمقراطية، وإلى اجتياح الكونجرس بالسلاح، دون أن تتمكّن المنظومة القضائيّة على محاسبته. كذلك لا يُمكِن التغاضى عن أنّ إشكاليّات ضبط خطاب الكراهيّة على المنصّة، وإيقاف حساب الرئيس حينًا، قد أدّت إلى شراء الصناعى المبتكِر إيلون ماسك للمنصّة برمّتها وتقويضها لخدمة تسويق أعماله وتوجّهاته السياسيّة وهوسه بالنشر عليها. الأمر الذى فتح المجال واسعًا لخطاب التحريض تحت شعار حريّة الرأى.
ثمّ انتقل ماسك إلى الدعم المباشر للحملة الانتخابية الجديدة لترامب. ومهما كانت نتيجة هذه الانتخابات، التى تلعب فيها القضايا الخارجيّة، خاصة حربى غزة ولبنان، دورًا مهمًّا، فإنّ الولايات المتحدة ستواجه تحديات غير مسبوقة على صعيد أسسها السياسية والعلاقة بين السياسة والمال والإعلام، المتمّثل اليوم أكثر بوسائل التواصل الاجتماعى منه فى الصحف المخضرمة.
فبعد أن سمّى ترامب قضاةً يناصرونه مدى الحياة فى المحكمة الدستوريّة، وعد فى حملته بأن يكون رئيسًا مطلق الصلاحيّات، كى تعود أمريكا عظيمة من جديد. وسيعاونه ماسك بالطبع على ذلك.
على الصعيد العالمى، حريّة الرأى التى يتحجّج بها إيلون ماسك انتقائيّة وموجّهة. لقد عقد اتفاقيات مع عدّة قادة دول، من الهند إلى تركيا، وغيرهما، بتوجيه ضبط نشر «التغريدات» عبر منظومات الذكاء الاصطناعى على منصة X لمصلحة هؤلاء مقابل عدم منع هذه الدول لتداول سكّانها على المنصّة. هذا بالإضافة إلى ما يُمكِن إتاحته، أو عدم إتاحته، عبر منظومات الأقمار الاصطناعيّة التى يملكها. وعلى الأغلب أن الزيارة التى قام بها إلى إسرائيل ولقاءه الحميم مع بنيامين نتنياهو كانا فى ذلك السياق.
• • •
وفى هذا السياق أيضًا، من المحقّ التساؤل اليوم كيف تموضعت منظومة ضبط النشر فى المنصة خلال الحملة الشعواء على الأكاديميين والطلاب، ومن بينهم اليهود، الذين حاولوا الضغط لإيقاف الإبادة الجماعيّة المستمرّة فى غزّة منذ أكثر من سنة؟ وكذلك كيف يتم استخدام هذه المنصة ليس فقط لنشر آراء أو إنجازات بل أيضًا التحذيرات المباشرة للجيش الإسرائيلى عن المواقع المدنية التى سيقوم بقصفها؟ التحذيرات الحقيقيّة والكاذبة؟! وكيف يتمّ الترويج لأكاذيب وخطابات بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته المتطّرفين التى تنزع الصفة الإنسانيّة عن الفلسطينيين واللبنانيين رغم اتهامهم بالإبادة الجماعية من قبل المحكمة الدولية؟
ومن المحقّ أيضًا التساؤل كيف يتم إظهار تغريدات بالتوالى على المنصّة تحتوى للفلسطينيين واللبنانيين والسوريين على خطابات الكراهية التى ينشرها مروجو الجيش الالكترونى الإسرائيلى بالتزامن مع خطابات من مغردين محليين حقيقيين أو مزيفين تحرض على الكراهية بين السنة والشيعة، وبين المسيحيين والمسلمين، ذلك بقصد التغطية على الإبادة الجماعية فى غزة ولخدمة المشروع الإسرائيلى فى النخر بالمجتمعات العربية؟ وفى حين لا يشاهد مشتركو الولايات والمتحدة وأوروبا الغربيّة كثيرًا مشاهد الإبادة والقصف الإسرائيلى.
ليست منصّة X مثلها مثل وسائل الإعلام المرئيّة والمطبوعة، يُمكِن أن يُحاسَب صحفيوها والقائمون عليها عمّا تنشره، وتُبرِز بشكل واضح توجّهاتهم السياسيّة. إذ تستطيع بشكل أكثر فعاليّة أن تكون وسيلة حرب، حرب على الحريات وحرب على البلدان والبشر. فهى تتموضع اليوم فى الولايات المتحدة إلى جانب تنظيمات ما دون دولة يمينيّة متطرّفة مسلّحة تهدّد النظام الانتخابى الأمريكى. وهى فى نفس الوقت، تتموضع فى مواجهة تنظيمات ما دون دولة مسلّحة، حماس وحزب الله، وحيث تم توكيل بنيامين نتنياهو بإنهائها وإنهاء مقاومتها للاحتلال.
• • •
قضية تنظيمات ما دون الدولة قضية شائكة. إذ إنّ الموقف منها يأتى من الموقف بين الحق فى المقاومة وبين الإرهاب. وليست حكرًا على الإسلام السياسى كما يتمّ إظهاره اليوم. فقد قاد تشى جيفارا يومًا تنظيمات مسلّحة ما دون الدولة فى محاولة تغيير سلطات فاسدة. وقادت الولايات المتحدة تنظيمات مسلّحة ما دون الدولة لفرض حكومات تهيمن عليها. منظّمة التحرير الفلسطينيّة كانت تنظيمًا مسلحًا يسعى لاستعادة أرضه وعودة اللاجئين والعيش فى دولة واحدة مع اليهود قبل أن يقبل بحل دولتين مزعوم وباتفاقية أوسلو. ولم يكن لتنظيمى القاعدة و«داعش» أن يتمدّدا إلى ما عرفاه فى مرحلة معينة دون دعم دول لهما.
قضيّة المقاومة وحقّ الدول فى «الدفاع عن نفسها» أيضًا قضيّة شائكة. فهل يتم تقديس حق الدفاع عن النفس لدولة محتلّة وليس نفس الحق بالنسبة للذين يرزحون تحت الاحتلال أو من يساندهم؟ وهل يُمكِن التحجج بأن أحد قرارات مجلس الأمن لم يحترمه طرف، بينما يضرب به الطرف الآخر عرض الحائط، كما جميع القرارات السابقة؟ وهل يُمكِن إدانة الإرهاب فقط حينما يأتى من تنظيمات ما دون الدولة.. وليس إرهاب الدول لشعوبها وللشعوب الأخرى؟
فى المناخ العالمى القائم اليوم، ومع الانتشار غير المسبوق لقمع الحريّات، من المحقّ التساؤل عمّا هو الأقلّ سوءًا فى نتائج الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة؟ أهو نجاح المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس، واستمرار النهج الذى سمح لنتنياهو بالإبادة الجماعيّة فى غزة وبالتدمير الممنهَج فى لبنان؟ هذا فى الوقت الذى أثبتت فيها الرئاسة الأمريكيّة، مع محدوديّة الضربة الإسرائيليّة الأخيرة على إيران، أنها كانت وما زالت قادرة على كبحه. وكان يكفى وقف شحنات الأسلحة إليه. أم الأسوأ هو نجاح المرشّح الجمهورى دونالد ترامب ودخول أمريكا فى تجربة شموليّة مع رئيس وعد بالاعتراف بضمّ إسرائيل لغزة والضفّة بعد القدس والجولان؟
فى جميع الأحوال، لا سبيل لبلاد المشرق العربى، المستهدفة من قبل إسرائيل وغيرها، إلا فى استعادة لحمتها الوطنية بالرغم من محاولات الشرذمة والتفكيك عبر وسائل الإعلام المختلفة وبينها منصة X. لا سبيل سوى تلك اللحمة كى تكون دولها ومؤسساتها حاضنة مقاومة مشاريع الهيمنة.. كل مشاريع الهيمنة ومهما كانت.