ماذا لو أن سعد القرش لم يكتب سوى عن ذاته فى روايته «2067»؟
الخميس 21 أغسطس 2025 - 7:35 م
لكم يبدو سعد القرش «ساذجا» وهو يخبرك بدهشة أن مثقفة شاركت فى ندوة حول روايته الجديدة «2067» قد رأت أن رشيد، المحامى والشخصية الرئيسية فى الرواية، ليس فى حقيقته سوى سعد القرش نفسه! مهما يكن من أمر من الواضح أن هذا التأكيد لا يعدو أن يكون «سذاجة» مزيفة. ففى النهاية لا يمكن لرشيد أن يكون غير سعد القرش حتى وإن تبدل الاسم وتبدلت المهنة. ففى نهاية الأمر قد لا تكون «2067» سوى رحلة ذهنية حقيقية يقوم بها صاحب «المايسترو» و«سنة أولى إخوان» وغيرها من نصوص أصدرها هذا الكاتب خلال عقدين وأكثر من الزمن، برفقة أسلاف وزملاء كبار له من جورج أورويل إلى أورهان باموك، حيث من الواضح أن العقود الطويلة التى تستغرقها الرحلة والرواية نفسها، دون أن تكتملا على أية حال، ليست محاكاة للأسبقين – لأورويل فى «1984» ولباموك فى «متحف البراءة»، وربما أيضا لروبرتو بوليانو فى تحفته «2166» – بقدر ما هى فى أطراف منها تحية لهم وتذكير بقراءته لهم أو على الأقل باطلاعه على أعمالهم ورغبة مشروعة، إلى حد كبير هنا، فى وضع نفسه صنوا لهم. فالقرش تمكن أخيرا فى هذه الرواية من أن يقدم لقرائه عملا كبيرا ممتعا يستأنف بالنسبة إلى كاتب هذه السطور المتعة التى نقلها إليه هذا الكاتب ليس عبر رواياته السابقة فقط ولكن أيضا عبر كتاب مبكر له هو «سنة أولى إخوان» ولكن أيضا عبر كتابات سينمائية له أدهشنى دائما أنه لم يعممها فيعتبر ناقدا سينمائيا من طراز كبير فى وقت يموت فيه النقد السينمائى لافتقاره إلى كتاب كبار!
ماضى الأيام الآتية
ومن هنا حتى نعيد التأكيد على أن «2067» ليست فى حقيقتها رواية تسير على خطى نصوص باموك أو بوليانو أو طبعا أورويل، حتى وإن كان ذلك السير واضحا بل حتى متطابقا فى لحظات معينة، هوة تتيحها لنا معرفتنا بأن سعد القرش فى هذه الرواية لا يسير حقا إلا على خطاه الخاصة ويروى فصولا من حياته الخاصة ويستشرف مستقبلا خاصا به. بل إن شخصياته، من بطله رشيد إلى سونهام وهدى وسامى وأم لبنى وغيرها تبدو من الشفافية بحيث إن الروائى لا يمكن أن يكون استقاها إلا من الحياة التى يعيشها. ومن يعرفون سعد القرش يعرفون بالتأكيد بعضها. هنا فى هذه الرواية ومهما موّه الكاتب و«زيّف» وسار قدما فى الزمن أو تراجع فيه، وبدا حتى فى هذا السير حائرا ضائعا يتوه فى لعبة ماضى الأيام الآتية ويعجز حتى عن استخدام رمزيات التواريخ المحددة، هو لا يكتب إلا عن نفسه فى نهاية الأمر. وما مشاريع سونهام المتعلقة حينا بذاكرة ثورة القاهرة ومتحف بقاياها، وحينا بمحل «أنتيكا» الذى يتوخى استعادة ذاكرة الزمن الفرعونى القديم، وحتى العلاقات الغرامية – التى ربما يتخذ معظمها طابعا تبريريا على أية حال – ما هذا كله سوى لعبة روائية يبرع الكاتب فى الغوص فيها ولو أن ثمة لحظات رائعة فى الرواية تقول لنا بصراحة إنه كان فى غنى عنها.
شكوى ما...
ففى الحقيقية أننا هنا، ونحن نقرأ هذه الرواية البديعة، ثم نستمع إلى مؤلفها يشكو من أن رشيد مشهراوى، الصديق السينمائى «قد سرق منى اسم بطلى!» دون أن يحاول أن يضحك حتى نجدنا أمام نموذج متقدم جدا مما يعنيه النقد (الأدبى هنا) حين يتحدث عن تخييل الذات. ثم لا بد لنا من التساؤل عما إذا لم يكن أدب سعد القرش كله، بما فيه العدد الأكبر من مقالاته السينمائية، هو من نوع الأدب الذى أنما عنه قد تحدث الأديب التشييئى (والتشييئية هنا هى على أية حال النقيض الأكبر للتخييل الذاتى فى الإبداع) الأكبر فى تاريخ الرواية الجديدة الفرنسية، ألان روب غرييه حين صرح آخر حياته قائلا بأنه لم يكتب إلا عن ذاته فى نهاية الأمر...
لذة موضوعية خالصة
ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن ثمة لذة موضوعية خالصة فى قراءة «2067» تخرج عن نطاق التعرف على الأحداث والتواريخ وربطها بفصول الرواية، بدءا من ثورة 25 يناير التى أضحت هنا ومنذ زمن بعيد ماضيا يحتفل أبناء المشاركين فى الثورة بافتتاح متحف «سرى» لذاكرته بعد اندحاره بأربعين عاما وعلى مشارف احتفالهم بهزيمة 1967 الكبرى.
لكن ثمة فى المقابل ما يدعو إلى الدهشة فى تلك الحرية الداخلية التى حلت محل الحرية السياسية العامة التى وأدتها دكتاتورية الأشباح والتكنولوجيا والذباب المفخخ، ولا سيما حرية الحب التى يمثلها – وربما يدعو إليها ويتبعها رشيد وسونهام عبر علاقتهما خارج مؤسسة الزواج – وربما حرية الجسد التى تمثلها الموديل أم لبنى... وغيرها من تفاعلات اجتماعية تجرى ولو فى البعد الخلفى الخفى للمجتمع، ولا سيما فى أوساط أبناء ذلك الجيل الذى تدور حياته فى العقود القليلة الفاصلة بين الزمن الحقيقى لكتابة الرواية والزمن الذى سيشهد افتتاحين لن نعرف أبدا ما إذا كانا متوازيين: افتتاح المتحف الإلكترونى لكل ما يتعلق بالثورة التى شارك فيها الجيل السابق، ويدفع الجيل الحالى اليوم ثمن مشاركة ذلك الجيل فيها من ناحية، ومن ناحية أخرى، افتتاح دكان بيع الآثار الفرعونية والقديمة الأخرى المتعلقة بالتاريخ المصرى القديم.
خلط موفق
ففى النهاية ثمة هنا خلط موفق على أية حال بين الأحداث والتواريخ يقابله وضوح خلاق فى الشخصيات التى أبدع سعد القرش فى «العثور» عليها من داخل بيئته نفسها، كما أبدع فى رسمها ودون أن يبدو عليه أنه يتعمد ذلك. ففى نهاية الأمر ورغم مسوح «البراءة» التى يتقن سعد القرش تحويلها إلى «سذاجة» حين تلوح له ضرورة ذلك، من الناحية الأخلاقية، ولكن من الناحية التقنية بصورة عامة، من المؤكد أن من نتعامل معه هنا كاتب شديد المكر وشديد الذكاء وواسع الاطلاع يثبت قوته مرة أخرى فى هذه الرواية التى ما إن ينتهى القارئ من قراءتها حتى يشعر بالحاجة المقلقة إلى قراءتها من جديد. ففى نهاية الأمر من الواضح أن القرش يرمى فى زوايا روايته وثناياتها علامات وإشارات تكشف أن ما يبدو للوهلة الأولى فى نصه، واعدا بتفاصيل أكثر عمقا لكن الوصول إليها يحتاج قراءة أكثر تأنيا مما تتيحه قراءة أولى تتوخى استعجال الدنو مما سيحدث، سوف يكتشف القارئ فى نهاية الأمر أن ما سيحدث كان مخبوءا فى ثنايا ما حدث فعلا. ترى أولا يبدو هذا كأنه وصف لبعض أساليب الحكى فى ألف ليلة وليلة؟ بل بعض أساليب الحكى فى أدب الكيد النسائى بصورة أكثر وضوحا؟
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا