فى أغسطس 2025، تم التصديق على القانون الجديد للإيجار فى مصر(قانون 164 لعام 2025)، وهو خطوة تهدف إلى وضع إطار تشريعى يحمى حقوق المواطنين كما تم الإعلان عنه، سواء كانوا مستأجرين أو ملاكًا، بعد سنوات من الازدواجية فى هذا المجال مع وجود إطارين قانونيين لتنظيم الإيجار (قانون 49 لعام 1977 وقانون 4 لعام 1996). ورغم ذلك، يبقى تطبيق القانون بكامل نصوصه يشكل تحديًا اجتماعيًا واقتصاديًا كبيرًا، ويتطلب من السلطات اتخاذ خطوات إضافية تحمى الفئات الأكثر هشاشة وتمنع وقوع كارثة إنسانية وسكنية.
الخلافات حول سياسات وتشريعات الإيجار ليست حالة خاصة بمصر فقط، بل هى ظاهرة عالمية تعكس صراعًا مستمرًا بين الأفكار والمصالح الاقتصادية والاجتماعية. يرتبط هذا الصراع بمفهوم «الحق فى المدينة»، الذى يشير إليه العديد من الباحثين والمفكرين والحركات فى مختلف المدن. يعبر «الحق فى المدينة» عن مطلب جماعى لتحقيق سيطرة ديمقراطية على الفضاءات الحضرية وتقليص أثر التمدن الرأسمالى الذى يضع الربح فوق جودة الحياة. وفى هذا السياق، تأتى سياسات ضبط الإيجارات كأداة مهمة لمواجهة النزوح السكانى الناتج عن هيمنة السوق، إذ تسهم فى تحقيق العدالة الحضرية من خلال حماية المستأجرين وتمكينهم من الحفاظ على مساكنهم ومنع عمليات التهجير أو الإحلال العمرانى التى تهدد التنوع السكانى والاقتصادى للأحياء والمدن.
إلى جانب ذلك، يمنح ضبط الإيجارات للملاك استقرارًا طويل الأمد للمدد الإيجارية، ما يعتبر دخلًا ثابتًا لهم يمكن التنبؤ به، بالإضافة إلى تقليل التكاليف المرتبطة بفترات شغور الوحدات السكنية، ما يعزز الفائدة المالية لهم.
كتجربة ناجحة وسط خطاب وسياسات نيوليبرالية تبرز أهمية ملكية المسكن دون الإيجار والتعامل مع الإيجار باعتباره ضررا للسوق العقارية، تظهر سويسرا، التى تُعد من أغنى دول العالم، باتباعها سياسات إسكانية تحفظ حقوق المستأجرين رغم ارتفاع نسبة المساكن المستأجرة التى تتجاوز نصف السكان، حسب إحصاءاتWorld Atlas . تعتمد سياسات الإسكان فى سويسرا على توفير نسبة كبيرة من الإسكان التعاونى وآليات تنظيمية تحمى المستأجرين من الإخلاء غير المبرر وزيادات الإيجار المبالغ فيها، ما يساهم فى خلق سوق إيجار متوازن ومستقر، ويجعل الاستثمار فى العقارات الإيجارية مجديًا اقتصاديًا رغم هذه الحمايات.
• • •
ضبط الإيجارات أمر حيوى للحفاظ على "الحق فى المدينة"، إذ يضمن للسكان الحصول على مساكن لائقة وبأسعار معقولة داخل المدن، مما يعزز استقرارهم الاجتماعى ويحفز مشاركتهم الحضرية. من خلال تثبيت الإيجارات ومنع الزيادات غير المنطقية، تحمى هذه السياسات المستأجرين من ارتفاع تكلفة السكن الناتج عن ضغوط السوق أو المضاربة العقارية. كما تسهم فى المحافظة على التنوع الاجتماعى وتمنع نزوح الأسر ذات الدخل المتوسط والمنخفض. بالإضافة إلى ذلك، تقلل ضوابط الإيجار من حالات الإخلاء القسرى التعسفى عبر إلزام الملاك بتقديم أسباب قانونية واضحة للطرد، ما يعزز أمن واستقرار السكن كأساس للمشاركة المجتمعية الفعالة فى الفضاءات الحضرية. هذا إلى جانب أن ضبط الإيجارات يعزز من الاستقرار المجتمعى لأنه يؤدى إلى تثبيط المطورين الجدد عن إنشاء وحدات سكنية للإيجار، مما يقلل من المعروض ويزيد الطلب على العقارات الحالية الخاضعة لرقابة الإيجار. وهذا بدوره يقلل من المنافسة بين الملاك ويساهم فى الحفاظ على مستويات إشغال مرتفعة.
إذن، لماذا يعتبر ضبط الإيجارات أمرًا ضروريًا وعاجلًا فى دولنا العربية مثل مصر ولبنان؟ فى أسواق الإيجار المفتوحة، يواجه المستأجرون عادة عقودًا قصيرة الأجل ما يهدد أمن الحيازة كمعيار للحق فى السكن، ويملك الملاك سلطة واسعة فى تحديد الشروط وعمليات الإخلاء، مما يقوض الاستقرار السكنى والإقامة طويلة الأمد الضرورية لتعزيز المجتمع الحضرى. يفضى تحرير الإيجارات إلى نزوح الفئات ذات الدخل المحدود والشباب من المناطق الحضرية المركزية، مما يعزز تركز السكان الأغنياء ويعمق التفاوتات الاجتماعية ويحد من وصول الفئات المهمشة إلى المرافق والفرص.
• • •
الاهتمام بقضية الحق فى السكن والإيجار، يأتى ضمن إطار عمل منتدى البدائل العربى للدراسات فى بيروت، والذى على مدار سنوات تفاعل بشكل كبير من خلال أوراق توصية سياسية أو أبحاث معمقة وأوراق متابعات مع قضية الحق فى السكن وأهمية تشريعات ضبط الإيجار وكان آخر هذه الإنتاجات ورقة متتابعة تتناول مقترح القانون المصرى وتحاول الربط بين الحق فى السكن والحق فى المدينة وقوانين ضبط الإيجار.
يأتى القانون الجديد فى مصر لينص على إنهاء العقود القديمة تدريجيًا خلال سبع سنوات للوحدات السكنية وخمس سنوات للوحدات غير السكنية، مع زيادات تدريجية كبيرة تصل إلى عشرين ضعف القيمة الحالية فى المناطق المرموقة وفرض حد أدنى للإيجار. وتهدف الحكومة من هذه التعديلات إلى استعادة توازن السوق بعد عقود من الازدواجية فى السوق العقارية ما بين التجميد الكامل وبين التحرير. لكن هذا قد يهدد مئات الآلاف من الأسر، خصوصًا من كبار السن وذوى الدخل المحدود، بخطر الإخلاء وفقدان السكن. فعند إلغاء العقود القديمة دفعة واحدة وتزامن ذلك مع ارتفاع معدلات التضخم، ستواجه هذه الأسر أزمة حقيقية تهدد أمنها الشخصى والسكنى، مع احتمالية لجوئها إلى مستوطنات غير رسمية أو مواجهة خطر التشرد خصوصًا مع محدودية قدرة السكن الاجتماعى والسكن التعاونى على استيعاب هذه الأعداد هذا إلى جانب تحديات التسليع التى تواجه هذه النماذج أيضًا. كما سيؤدى تحرير الأسواق إلى ارتفاع كبير فى أسعار الإيجارات والعقارات، ما يهدد القدرة على تحمل تكاليف السكن وقد يؤدى كذلك لحالة من الركود فى السوق العقارية.
نفس الوضع نراه فى لبنان، حيث يعمق الانهيار الاقتصادى من الأزمة السكنية، حيث أقر البرلمان اللبنانى - مؤخرًا - تعديلًا لقانون الإيجار التجارى يفرض زيادات كبيرة تصل إلى 8% من قيمة العقار سنويًا بعد فترة انتقالية قصيرة. وكثير من الملاك يرون أن القانون أعاد لهم حقوقهم التى توقفت لسنوات، ويعتبر المستأجرون هذه التعديلات تهديدًا مباشرًا لاستقرارهم السكنى، لا سيما من يديرون أعمالًا صغيرة أو يعيشون فى نفس العقار عقودًا طويلة.
هذا الطرح ليس دعوة للتشاؤم، بل هو دعوة للتفكير فى حلول عملية للتعامل مع تداعيات هذه التشريعات. لا زالت أمام لبنان فرصة للاستفادة من التجارب الدولية المختلفة فى صياغة إطار قانونى لضبط الإيجارات يحمى حقوق جميع الأطراف ويعزز من النسيج العمرانى والاقتصادى للمدن. وفى مصر، رغم ميل القانون لتحرير السوق بشكل كامل، يمكن للائحة التنفيذية للقانون أن تدرج تدابير تحفظ حقوق الفئات الأكثر هشاشة، مثل تفعيل المجالس المحلية ودورها للاستعانة بها فى رصد حالات المستأجرين والتعامل معها بشكل فردى، مما يخفف الآثار السلبية لتطبيق القانون ويجنب تشريد مئات الآلاف.
تتطلب المرحلة الحالية تصميماً دقيقاً ومتوازنًا لضبط الإيجارات، يحقق حماية المستأجرين ويضمن عوائد عادلة للملاك، مع مراعاة الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحرجة، خصوصًا للفئات الاجتماعية والاقتصادية الأكثر هشاشة وضعفًا بما يجعل من مدننا العربية مدنا تستوعب وتشمل جميع مواطنيها بمختلف طبقاتهم.