x قد يعجبك أيضا

الكوبرى أم الطبيعة؟

الأحد 15 سبتمبر 2024 - 6:10 م

منذ ما يقرب من عام تغير جزء من رحلتى اليومية إلى مكتبى لأنه قد تقرر هدم الكوبرى المسمى بشمال طرة ــ وهو ما كان يمثل مدخلا بالدراجة للمعادى ــ- لأنه تقرر استبداله بكوبرى أكبر منه كجزء مما يسمى امتداد محور حسب الله الكفراوى والذى سيعبر النيل أيضا (لا أدرى لماذا وما الفائدة الكبرى من عبور النيل فى هذا المكان؟) وكما فى مشروعات أخرى ليست هناك خريطة توضيحية وشرح بجوار مكان العمل توضح للسكان والأشخاص العابرين الخطة المستقبلية.

فى خلال الأشهر الماضية اضطررت لاستبدال خط سيرى بالدراجة من أعلى الكوبرى بعد فشل محاولات لعدة مسارات أخرى للانضمام للأفراد العابرين من أسفل السكة الحديد من خلال نفق يبدو موجودا بالصدفة، فلم يراعِ أحد مثلا ارتفاع الفتحة التى منها تدخل النفق والتى تقترب من حوالى متر، وتتمثل أرضية النفق من مجموعة من الحجارة غير المنتظمة.

ما آذانى بشدة فى هذا المشهد بالرغم من الضرر ليس هدم العديد من المبانى ولا المسجد القديم الجميل، ولكن ردم الجزء من وادى دجلة الواصل لنهر النيل والذى ربما لا يمثل لكثر قيمة كبيرة لندرة الأحداث الجوية مثل عاصفة التنين منذ أربع سنوات والتى كان فيها هذا الوادى ووديان أخرى فى القاهرة جزءا أساسيا من نقل مياه الأمطار وإيصالها للنيل. ما آذانى هو معرفتى بأن الوادى هو منظومة بيئية مركبة ومعقدة وتدمير جزء مهم فيه لا بد أنه سيؤثر على المنظومة الطبيعية ككل.

محمية وادى دجلة الحالية والتى لها بوابة على بعد عدة كيلومترات للشرق من التقاء الوادى بالنهر، للأسف الشديد لا تمثل حدودها ما كان يجب أن يحدد المحمية والتى لا بد أنها كانت لتمتد حتى نهر النيل، وأن تضم كل ما يمكن ضمه من الحوض الهيدرولوجى للوادى، والحوض هو بالتأكيد ليس مسافة محددة مقاسة على جانبى المجرى الرئيسى.

ردم مجرى وادى دجلة واستبداله فى أجزاء بمواسير كبيرة هو تجاهل كبير لماهية الوادى ولطبيعته الهشة والتى لها دور هام فى الحفاظ على الطبيعة ككل فى وادى النيل. أما ردم الجزء النهائى منه عند التقائه بالنيل فأراه كبيرة من الكبائر التى لم يعِ من قرر تنفيذها أبعاده العملية وأيضا دلالاته الرئيسية.

لإنشاء هذا الكوبرى وطبقا لما وصل إلى علمى فقد تمت استشارة دكتور مهندس بخصوص هذا الوادى لكننى أعرف أيضا أنه لا يوجد لدينا مركز متخصص فى دراسة المنظومات الطبيعية المرتبطة بمسطحات المياه العذبة سواء كانت أنهارا أو بحيرات أو وديانا، لأنه ببساطة فى المركز القومى لبحوث المياه ومراكزه الفرعية يتغلب الأصل الهندسى الحسابى الذى يركز على البعد الكمى بالرغم من أن المعارف التى توافرت لنا فى العقود القليلة الماضية من المفترض أن تغير من تلك المعتقدات الراسخة، وأن تضم مركزا لدراسة إيكولوجية المياه العذبة والمياه المالحة أيضا.

الماء هو جزء مما يسمى بالعناصر اللاأحيائية فى المنظومات الطبيعية مع التربة والهواء، ولكن تلك العناصر لها تأثير وتأثر كبير بالعناصر المسماة الحيوية وهى أساسا فى شقين الأول نباتى والثانى حيوانى.

بالرغم من أن مركز الموارد المائية التابع للمركز القومى لبحوث المياه أصدر فى السنوات القليلة الماضية مجموعة من الأطالس الرائعة عن الوديان فى مصر يحدد فى كل منها حوض الوادى وشبكة التصريف ومعلومات أخرى هامة للغاية، إلا أن تلك الأطالس تفتقد الجوانب الطبيعية النباتية والحيوانية لتلك الوديان والتى بدونها لا تكتمل دراسة الوديان ولا يمكننا تحديد المشاكل والتحديات التى تواجهها وكيفية التعامل معها خاصة فى ظل ما نعرفه عن التغير المناخى والتنوع الحيوى.

يمثل ردم جزء هام من الوادى والاستعاضة عن مساره الطبيعية بمواسير وقصر حدود الوادى على منطقة لا تمثل الحدود الطبيعية للوادى أو للجزء الأكبر منها، يمثل إشكالية كبرى فى التعامل مع البيئة الطبيعية وهو ما أعتقد أن مسئولية الحفاظ عليه وإعادة تأهيله تقع على عاتق وزارة البيئة التى لا أدرى أين هى من تلك التدخلات والمشروعات المماثلة فى أنحاء مصر؟! لماذا لا تتعاون وزارة البيئة بصورة جادة مع وزارة الرى فى دعم وإنشاء مراكز لدراسة بيئات المياه العذبة بصفة خاصة بدلا من تركها لمجهودات هندسية والتى بالرغم مما يبدو من نوايها الطيبة إلا أنها من المتوقع أن تجلب نتائج ليست فى صالحنا جميعا.

هذا التعامل مع وادى دجلة ليس حالة خاصة للأسف، ولكن مراجعة لما تم ويتم فى العديد من الوديان عبر مصر يصيبنا بقلق كبير وما يثيره ذلك التعامل أنه يضعنا أمام التساؤل الكبير الذى تجد البشرية نفسها فى مواجهته، هل نعطى الأولوية لتنفيذ التدخلات الهندسية التى قد نعتقد أنها ستحل مشاكلنا على المدى القصير (وإن كنت أشك فى ذلك كثيرا) على الطبيعة التى إن دمرناها خسرنا ما لا يمكن تعويضه على المدى المتوسط والبعيد؟ هو سؤال أراه وجوديا ويستحق نقاشا عاما معمقا.

 

أستاذ العمارة بجامعة القاهرة

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2024 - جميع الحقوق محفوظة