تأسست إمبراطورية الخزر في أواخر القرن السادس الميلادي وامتدت من البحر الأسود إلى بحر قزوين ومن القوقاز إلى نهر الفولجا. كانت إمبراطورية تجارية كبرى وتعتبر شريانا تجاريا رئيسيا بين أوروبا الشرقية وجنوب غرب آسيا، كما سيطرت على الممرات الغربية لطريق الحرير.
ضمت إمبراطورية الخزر أعراقا متعددة، منها الأتراك، والبلغار، والروس، والمغول، والمجريين، وشعوب المستعمرات الرومانية واليونانية في شبه جزيرة القرم، والقبائل السلافية، والعشائر الإيرانية والمنغولية.
ومن أجل تجنب الوقوع تحت حكم إحدى القوتين الكُبريين في العالم في القرن الثامن، وهما الإمبراطورية البيزنطية المسيحية والخلافة الإسلامية، والاختيار بين المسيحية والإسلام، قرر ملك الخزر عام 740م اعتناق اليهودية، وأمر رعاياه أن يفعلوا الشيء نفسه.
وهكذا أصبحت اليهودية دين دولة الخزر، ومارسوا التقاليد اليهودية، بما في ذلك استخدام التوراة، والتلمود، والنص العبري، والاحتفال بالأعياد اليهودية.
وهناك مجموعة من المصادر التاريخية المعروفة باسم مراسلات الخزر، أرسلها حاكم الخزر باللغة العبرية إلى أحد حاخامات قرطبة بإسبانيا، يحكي قصة تحول شعبه إلى اليهودية، وذكر في هذه المراسلات دعوة ملك الخزر من قبل البيزنطيين والعرب إلى اعتناق المسيحية والإسلام.
• • •
منذ منتصف القرن السابع، خاض الخزر سلسلة من الحروب مع الإمبراطوريتين الإسلامية والبيزنطية، انتهت باحتلال عاصمة الخزر على يد سفياتوسلاف الأول -ملك كييف بين عامي 965 و969- أعقبها انهيار الإمبراطورية الخزرية وظهور دولة كييف روس التي تشمل روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا.
في عام 1976، صدر كتاب "القبيلة الثالثة عشرة" للكاتب اليهودي البريطاني المجري المولد -آرثر كويستلر- الذي وجد بعد سنوات من البحث المكثف أن الأشكناز هم من نسل الأمة الخزرية وهم أساس الشعب اليهودي في أوروبا الشرقية، وأن الجزء الأكبر من اليهود المعاصرين ليسوا من أصل كنعاني، بل من أصل قوقازي.
وهذا ما أكده شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب عام 2009، في كتابه الموسوعي "اختراع الشعب اليهودي".
• • •
تعارضت الفرضية الخزرية مع "فرضية راينلاند" (Rhineland) التي تشير إلي أن اليهود ينحدرون من القبائل الإسرائيلية الكنعانية التي غادرت الأرض المقدسة إلى أوروبا في القرن السابع، بعد الفتح الإسلامي لفلسطين. ثم، في بداية القرن الخامس عشر، غادرت مجموعة قوامها حوالي 50 ألفا منطقة نهر الراين إلى أوروبا الشرقية، وهناك تكاثروا بسرعة على الرغم من المرض والاضطهاد والحروب والصعوبات الاقتصادية، وأصبح عددهم حوالي 8 ملايين بحلول القرن العشرين، وهو ما رفضه شلومو ساند، أستاذ التاريخ، لأن عدد اليهود في أوروبا الشرقية لم يكن من الممكن أن يصل إلى 8 ملايين لولا مساهمة شعوب الخزر.
اعترض الكثيرون على الفرضية الخزرية واعتبروها معادية للسامية وأنها مجرد افتراض بدون دليل جيني، ولكن في عام 2012، أثبت عالم الوراثة اليهودي إيران الحايك، في جامعة جونز هوبكنز، في دراسة نشرت في مجلة Genome Biology Evolution، أنه لا يوجد جينوم يهودي، أو جين يهودي، والافتراض أن اليهود الأشكناز هم مجموعة سكانية محددة متشابهة مع بعضها البعض غير صحيح، وأشار إلى أن المجتمعات اليهودية أقل تجانسًا مما يُعتقد عمومًا، ودعا إلى إعادة كتابة الافتراضات الشائعة حول الأصل اليهودي.
وأوضح أن اليهود الحاليين هم في المقام الأول أبناء شعوب الخزر. وكانت هذه الدراسة أول ورقة علمية تثبت صحة فرضية الخزر التي اقترحها آرثر كويستلر وشلومو. وحتي يومنا هذا، لا يزال المتعاطفون مع الفكر الصهيوني يشككون في صحة الفرضية الخزرية، وإنه من الصعب تحديد مدى صحة هذا الادعاء.
• • •
كان آرثر كويستلر يدرك أن كتابه سيثير ضجة كبيرة في إسرائيل وبين يهود العالم وسيعرضه لبعض المخاطر. ومع ذلك، كان للكتاب العديد من المؤيدين، وقد وصفته صحيفة نيويورك تايمز بأنه "مثير للفكر، ومكتوب بمهارة وأناقة وسعة الاطلاع"، وكذلك تقرير في واشنطن بوست أشار إلي أن الكتاب تم بحثه بعناية.
توفي آرثر كويستلر عام 1983 عن عمر يناهز 77 عامًا. وتم اكتشاف جثته بجوار زوجته المتوفاة في شقتهما بلندن، حيث كانا يجلسان جنبًا إلى جنب. واعتبرت وفاتهما انتحارا، لكن كُثرا رأوا خلاف ذلك. حاليًا، وفقًا لجريس هالسيل من صحيفة واشنطن بوست، من الصعب العثور على كتاب آرثر كويستلر، ومكتبة الكونجرس، أرقى مكتبة في الولايات المتحدة، لديها نسخة واحدة فقط. وهذه النسخة "مفقودة من الرف".
لم يكن هدف آرثر كويستلر هو استغلال نظريته لنزع الشرعية عن دولة إسرائيل، وكان أمله أن يساهم كتابه في القضاء على الأسباب العنصرية للتمييز ضد اليهود في أوروبا الشرقية لأنهم ينحدرون من نفس الجذور العرقية، حيث ضمت إمبراطورية الخزر أجزاء كبيرة من أوكرانيا والعديد من دول أوروبا الشرقية المعاصرة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. وللتوضيح، ينقسم يهود الشتات بين السفارديم الذين تعود أصولهم إلى شبه الجزيرة الإيبيرية (السفارديم هي إسبانيا)، والأشكناز الذين تعود أصولهم إلى أوروبا الشرقية والقوقاز، وهم من نسل الخزر، وولدت اللغة اليديشية التي يتحدثونها في تلك المنطقة.
• • •
في الختام، لا بد من التوضيح أن الفرضية الخزرية لا تعني معاداة السامية، ولكنها تفضح زيف الفكر الصهيوني في تقديم التاريخ دون أدلة علمية قوية، والاعتماد بشكل أساسي على القصص الدينية التي تناقض الأدلة وفقا لعلوم التاريخ والآثار والأنثروبولوجيا. والحقيقة أن المراجع الأكاديمية، وبعضها من داخل إسرائيل، وكذلك الدراسات الجينية الحديثة، تؤكد عدم مصدقية الادعاء الصهيوني حول الجذور العرقية للشعب اليهودي وحقه التاريخي في أرض كنعان (الأصل التاريخي لفلسطين وإسرائيل).
التزم كاتب المقال باستخدام المراجع اليهودية التي لا يمكن اعتبارها معادية للسامية، وتجنب المراجع العربية التي قد تحتوي على تحيزات تعرضهم لهذا الاتهام. وكاتب المقال، الذي يعتز بصداقات وثيقة مع زملائه من الجالية اليهودية، يرفض فكريا وأخلاقيا معاداة السامية ويرى فيها موقفا غير أخلاقي ومثيرا للاشمئزاز مثل كل العداوات العنصرية الأخرى. ومن هذا المنطلق، وكما نرفض معاداة السامية، فإننا نرفض أيضًا التمييز العنصري الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في إسرائيل، ونشعر بالألم إزاء معاناة المدنيات والمدنيين العزل في قطاع غزة من المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بوحشية ضدهم وضد الأطفال الأبرياء الذين قُتل الكثير منهم وتعرضوا للتشويه الجسدي دون رحمة، ويعاني الأحياء منهم من الرعب والتوترات النفسية التي ستستمر في ذاكرتهم لعقود طويلة.
علينا أن نتعلم من التاريخ بأمانة وأن نتجنب التعصب العقائدي الذي يحول الناس إلى وحوش مفترسة لا ترحم. وكما قال اللورد أكتون (أحد أعظم المؤرخين الليبراليين في العصر الفيكتوري): "التاريخ ليس عبئا على الذاكرة، بل هو إنارة للروح".
أستاذ الأشعة التشخيصية سابقا بجامعة شفيلد ــ إنجلترا