x قد يعجبك أيضا

من بيرل هاربر إلى طهران.. الجاكسونية تعود إلى قلب السياسة الأمريكية

الثلاثاء 15 يوليه 2025 - 9:00 م

شهدت الأسابيع القليلة الماضية تقلبات حادة فى سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، ما بين الدبلوماسية والضربات العسكرية على المنشآت النووية الإيرانية، ثم العودة مرة أخرى إلى التهدئة. توضح -هنا- كاتبة المقال أن هذه الضربات العسكرية تعد جراحية، إذ استهدفت أماكن محددة، تلتها مباشرة خطوات لخفض التصعيد، أى هى محاولة للموازنة بين عدم التدخل والحرب الشاملة. لكن أثارت هذه السياسة حيرة المراقبين حول ما إذا كان ترامب صقرًا جمهوريًا تقليديًا أم انعزاليًا من دعاة عدم التدخل. فى هذا السياق، تصف كاتبة المقال إيما أشفورد السياسة الخارجية لترامب بالـ «جاكسونية»، أى العمل العسكرى المحدود ولكن الحاسم من أجل تحقيق المصالح الأمريكية.

جاء مصطلح «الجاكسونية» من الباحث والتر راسل ميد، الذى أوضح بأن هناك أربع مدارس فكرية رئيسية فى السياسة الخارجية الأمريكية. أولا، «الويلسونيون» — نسبة إلى الرئيس وودرو ويلسون الذى أنشأ عصبة الأمم — يؤمنون بنشر القيم الليبرالية والديمقراطية فى العالم. ثانيا، «الهاميلتونيون»، نسبة إلى ألكسندر هاميلتون أحد الأباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، يركزون أكثر على الشئون التجارية، ويدفعون الولايات المتحدة لتولى دور نشط فى حماية التجارة الدولية، كما فعل الرئيس جورج بوش الأب خلال حرب الخليج حين سعى لحماية أسواق النفط العالمية. ثالثا، «الجيفرسونيون»، نسبة إلى المحامى توماس جيفرسون، فهم يميلون إلى تجنب الانخراط الخارجى والتركيز شبه الكامل على الشئون الداخلية؛ وهذه النزعة لم تكن ممثلة بشكل كبير فى رؤساء الولايات المتحدة فى العقود الأخيرة.

رابعا، الجاكسونية، نسبة إلى الرئيس الأمريكى السابع أندرو جاكسون، ويركز أنصار هذه المدرسة على الداخل، متبنين مقاربة قومية تضع السياسات الداخلية فى مرتبة أعلى من الخارجية. ومع ذلك، فهم لا يمانعون إطلاقًا فى الإنفاق على الجيش، ومستعدون تمامًا لخوض الحروب متى ما اعتبروا أن القضية تمس مصالح الولايات المتحدة الحيوية. وكما وصف المؤرخ هال براندز ذلك، فإن «هدفهم من القتال هو تحقيق النصر الأمريكى، لا إنقاذ العالم».

هنا توضح إيما أشفورد أنه إذا كان ترامب بالفعل يضع المصالح الأمريكية فى المقام الأول، فعلى الدول الأخرى ــ سواء كانت حليفة أو خصمة ــ أن تتأقلم مع عصر جديد قد تتصرف فيه الولايات المتحدة على نحو مختلف تمامًا فى الساحة الدولية.

• • •

تشير أشفورد إلى أن ضربات ترامب على إيران لا تنسجم مع الثنائية المعتادة فى السياسة الخارجية الأمريكية، أى الاختيار ما بين العزلة أو الانخراط ( أى لا يوجد وسط). فمنذ فترته الأولى، وصف كثيرون ترامب بأنه جاكسوني، وكان والتر راسل ميد- وهو أحد أبرز المفكرين فى هذا المجال-  قد كتب عام 2017 أن «الشعبوية الأمريكية المتميزة التى يتبناها ترامب متجذرة فى فكر وثقافة أول رئيس شعبوى فى البلاد، أندرو جاكسون». فترامب لا يخشى استخدام القوة العسكرية؛ بل يُظهر حبًا واضحًا لفكرة القوة، ويُبدى نفورًا من الحملات الليبرالية العالمية والتحالفات الدولية. حتى إنه أطلق على سياسته الخارجية اسم «أمريكا أولًا»، مستعيرًا شعارًا من فترة ما بين الحربين العالميتين وجاعلًا إياه شعاره الخاص.

معلومة إضافية، يرفض الجاكسونيون قاعدة «بوترى بارن»، وتعنى «إذا كسرت شيئًا، فعليك أن تدفع ثمنه»، أى إذا أقدمت على فعل شىء عليك تحمل التبعات كافة أيا كانت، فهم يرون أنه لا بأس فى «كسر الأشياء» ثم الانسحاب دون التزام بإصلاح ما كُسر. فالجاكسونيون، الذين تراجع نفوذهم منذ ثلاثينيات القرن الماضى، لم يخوضوا الحروب إلا عندما تعرضت الولايات المتحدة أو مواطنوها لتهديد أو هجوم مباشر، كما حدث بعد الهجوم على بيرل هاربر، أو بعد تدمير السفينة الحربية «يو إس إس مين» عام 1898. وهم أيضًا منفتحون على شن حملات عقابية أو ضربات جراحية تهدف إلى معاقبة دول أخرى أو إجبارها على قبول أمر ما، مثلما فعل الرئيس رونالد ريجان عام 1988 حين أمر بتدمير جزء كبير من الأسطول البحرى الإيرانى ردًّا على الهجمات التى استهدفت السفن فى مضيق هرمز.

حتى الآن، يبدو أن الجاكسونيين قد ثبتت صدق نظريتهم. فوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل لا يزال صامدًا، والولايات المتحدة تجنبت تنفيذ ضربات إضافية، وأسوأ السيناريوهات -أى انغماس أمريكا مرة أخرى فى حرب شرق أوسطية عبثية بينما تواصل الصين صعودها- لم يتحقق بعد. وقد أشاد نائب الرئيس جيه. دي. فانس بهذا «النهج الجديد فى السياسة الخارجية»، الذى يركّز على «المصلحة الأمريكية الواضحة» ويتجنب «الصراعات المطولة».

• • •

ومع أن محاولة ترامب لتحقيق توازن بين التدخل وضبط النفس تبدو ناجحة فى ظاهرها، إلا أن إيما أشفورد تحذر من المخاطر الكامنة فى اعتماد الضربات الجراحية والتدخلات المحدودة. فمثل هذه الإجراءات، رغم دقتها، غالبًا ما تعجز عن معالجة الأسباب العميقة للنزاعات الدولية. فعلى سبيل المثال، عملية «برينج مانتيس» التى شنّها ريجان وأسفرت عن تدمير جزء كبير من البحرية الإيرانية، لم تسهم فى تهدئة التوترات المتواصلة بين واشنطن وطهران.

مجموعة ثانية من المشكلات المرتبطة بالضربات الجراحية على الطريقة الجاكسونية تتعلق بالتحكم فى وتيرة التصعيد. فالكثير يتوقف على رد فعل الخصم. انتشرت على منصة «إكس» صورة ساخرة بعد القصف الأخير، نُسب فيها منشور ترامب على وسائل التواصل الاجتماعى إلى الإمبراطور هيروهيتو بعد هجوم بيرل هاربر، وانتهى بعبارة «الآن هو وقت السلام» بأسلوب ترامب المعروف.

هذه النكتة توضح ببراعة مدى العبثية فى الانتقال مباشرة من إسقاط القنابل إلى الدعوة الفورية للسلام؛ إذ لم يكن هناك شىء فى العالم قادر على إقناع الأمريكيين بقبول الدبلوماسية والسلام فى الأيام والأسابيع التى تلت هجوم بيرل هاربر.

تؤكد الكاتبة أن من أبرز المخاطر المصاحبة للضربات الجراحية الجاكسونية هو احتمال استمرار التصعيد بين الأطراف المتحاربة، بما قد يجرّ المنطقة إلى مواجهات أوسع، أو أن تؤدى هذه الضربات بشكل غير مقصود إلى إسقاط النظام الإيراني. وفى حال حدث ذلك، فإن التداعيات ستكون كارثية؛ فموجات اللجوء والفوضى التى شهدها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عقب انهيار النظامين فى ليبيا والعراق قد تبدو متواضعة مقارنةً بما قد ينجم عن فراغ سياسى وأمنى فى دولة بحجم إيران، يتجاوز عدد سكانها 90 مليون نسمة، وتحتل موقعًا جيوسياسيًا بالغ الأهمية.

وربما تكون أسوأ مشكلة فى الضربات الجراحية الجاكسونية، هى أن النجاح قد يؤدى إلى الغرور المفرط. فمن السهل جدًا على صانعى القرار والرأى العام أن يروا نجاحًا عسكريًا ويطالبوا بالمزيد. وقد قوبلت ضربات ترامب لإيران بإشادة واسعة على قناة «فوكس نيوز» وغيرها من وسائل الإعلام المحافظة. إذن يتطلب الأمر صانع قرار منضبطًا بحق لمقاومة إغراء المزيد من التدخل فى مثل هذا المناخ. ولا حاجة للقول إن وصف «منضبط بحق» لا يُطلق عادةً على الرئيس السابع والأربعين- ولا على قاعدته الجاكسونية الشعبوية، حسب رؤية كاتبة المقال.

خلاصة القول، يكمن الخطر الحقيقى لهذه المدرسة الجاكسونية فى أن النجاحات الظاهرية التى تحققت خلال الأسابيع الماضية فى الحرب الإسرائيلية الإيرانية قد تفتح الباب أمام قرارات متهورة فى المستقبل. فعند طرح خيار تدخل جديد، قد يكتفى الكونجرس ووسائل الإعلام باستحضار «النجاح الساحق» الذى حققه ترامب ضد البرنامج النووى الإيرانى، كتبرير للمضى قدمًا. ورغم أن النهج الجاكسونى الذى اعتمده ترامب مكّنه من تجاوز الانقسامات التقليدية بين دعاة التدخل الكامل وأنصار الانكفاء، فإن من غير المرجّح أن يُفضى هذا المسار إلى نتائج مماثلة فى كل مرة.

 

إيما أشفورد

مجلة «فورين بوليسى»

مراجعة وتحرير: وفاء هانى عمر

النص الأصلي 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة