x قد يعجبك أيضا

البحث عن الدائرة المغلقة

الأحد 13 أبريل 2025 - 2:01 ص

ربما يكون الصدق والبساطة هما مفتاح هذه السيرة الذاتية، فلا تجد فيها تضخيما للذات ولا للدور، ولا تقرأ فيها «عنتريات» تطمح إلى تغيير العالم، بل ربما هى أقرب إلى سيرة حيرة وأسئلة، وليست سيرة إجابات ووصول، سيرة ضعف ومشقة، وليست سيرة قوة ووصول ويقين.
أحببت سيرة «حنين إلى الدائرة المغلقة» الصادرة عن دار الكرمة، لمؤلفها بدر الرفاعى، وهو مترجم كبير، قدّم للمكتبة العربية ترجمات مهمة، أحدثها ترجمة كتاب «إعلام الجماهير.. ثقافة الكاسيت فى مصر» للباحث الأمريكى أندرو سايمون، وقد تخرج الرفاعى فى العام 1971 فى قسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة؛ أى إنه من الجيل الذى عاصر الأحداث المصرية والعربية الكبرى فى القرن العشرين، وسنوات القرن الحادى والعشرين، منذ مولده فى عام النكبة (1948)، وحتى اليوم.
ولكن الحدث الأهم والمؤثر كان شخصيا وعائليا، فهو ابن كادر شيوعى معروف، هو سيد سليمان الرفاعى (الرفيق بدر)، السكرتير العام لتنظيم «حدتو» الشهير، والذى سجن لمدة سبع سنوات فى الواحات، وكانت أم بدر شيوعية أيضًا، تحملت مسئولية تربيته ورعايته طوال فترة سجن أبيه، وقد حدّدت هذه الظروف العائلية مسار حياة بدر، وسنوات عمره الأولى، وأثّرت عميقا بعد ذلك على أفكاره وأسئلته.
وقبل أن تظن أنه ورث النضال عن والده، يدهشك الرجل بأنه ليس مناضلًا، ولا يحب أن يكون، وأنه كسول، ويحن دوما إلى الدوائر المغلقة والمنعزلة، ويميل إلى الوحدة، ويتذكر بكثير من التفاصيل والشغف طفولته فى قرية جده لوالده، حيث تركته أمه لفترة بسبب ظروف مطاردات السياسة.
ورغم أن بدر قد عرف بدوره العمل السياسى السرى فى مرحلة الشباب المبكر، فإنه مرَّ بفترة مراجعة كاملة، وبمحنة نفسية، أورثته قلقًا وأسئلة وعدم يقين، وبقيت من التجربة تلك الشهادة المهمة عن الزمن والناس والوطن، وعن الشخصيات الكثيرة التى عرفها خلال مسيرته الصحفية، بالذات فى فترة عمله سكرتيرا فنيا فى دار الفتى العربى.
يمكن أن نعتبر هذه السيرة وثيقة اجتماعية وإنسانية مدهشة، والفصول الأولى التى يحكى فيها بدر الرفاعى عن فترة القرية، ثم عودته إلى أمه، ليقيما فى أكثر من مكان فى شبرا، ثم خروج الأب من السجن، والانتقال إلى شبرا الخيمة، كتبت بجرأة واقتدار، وبنفس روائى، لا يترك شاردة أو واردة، فتشعر فى السطور بنبض الحياة فى خشونتها وبساطتها، وسط ظروف أقرب إلى الفقر والتقشف، وتبدو القرية المصرية بالذات بطريقتها بعيدة عن أيدى التحديث، ومن خلال عين طفل يكتشف العالم، يتدفق السرد حرا وطليقا وصريحا، ونرى شخصيات الجدة والجد فى القرية، ثم شخصية الأم فى القاهرة، كعناصر أساسية فى البناء، وكمحاور لدراما السنوات الأولى، التى شكّلت العالم الأول الذى عرفه الكاتب.
يكتب الرفاعى بصورة حميمة وواقعية، ورغم انتزاعه من القرية التى لم ينتظم فيها للدراسة، وإن عرف الكتّاب، وتلقى فيه ما جعله «يفكّ الخط»، فإنه ظل يحن دومًا لتلك الحياة المنعزلة والتى تجعل الإنسان على صلة مباشرة بالطبيعة، والتى جعلته أيضًا على معرفة بتنوع هائل فى الشخوص والأماكن والخبرات، وساعدته على تسجيل طقوس ومهن وطرق للعيش، وترويض الحياة اندثرت تماما بعد ذلك.
ويعود دور الأم المناضلة قويا ومؤثرا، فقد كانت عاملة فى مصنع للنسيج، وناشطة سياسية، وتزور وترعى أسر المعتقلين أيضًا، ونجحت إلى حد كبير فى أن يستكمل ابنها تعليمه، رغم حياة فقيرة بائسة.
ورغم فوضى حقيقية، جعلت بدر أبعد ما يكون عن أن يكون تلميذًا مثاليًا، وأقرب فى فترات كثيرة إلى الفشل الدراسى، فإن عودة الأب الغائب، وتعيينه موظفًا فى دار الأوبرا القديمة، أعاد إلى الأسرة بعض التوازن. وفى اليوم الأول من امتحان الابن للثانوية العامة، بدأت حرب يونيو 67، وبدأت بالتالى مرحلة جديدة لم تتوقف فيها الأحداث الكبرى عن التأثير على أبناء الجيل كله.
ولكن الانكسار والخذلان الذى لم يفارق أبدًا بدر الرفاعى بسبب كارثة يونيو، والذى وصفه ببراعة فى كتابه، مقترنًا بهموم المرض الجسدى والنفسى، لم يمنعه من الإشارة إلى حيوية كبيرة فى الحياة الثقافية والجامعية عاصر الكثير من تفاصيلها، من مظاهرات الاحتجاج على محاكمات قادة سلاح الطيران إلى نهضة مسرحية كبيرة، وحوارات ومناقشات صاخبة، ومولد جيل من الكتاب والمبدعين، ثم جاءت حرب أكتوبر التى عاصرها بدر ضابطًا احتياطيّا، وتلتها سنوات الانفتاح والتغيرات الاقتصادية الشاملة والتى قلبت المجتمع رأسًا على عقب.
مع موت الأب فى أغسطس من العام 1983، يبدأ بدر فترة صعبة على المستوى الشخصى، فى صورة مراجعة وأسئلة فى كل الاتجاهات، ووقفة وجودية، وأزمة نفسية وبدنية، وكأنه يترجم بذلك محنة جيل كامل، ولكنه يستمر ويتعافى تدريجيا.
لعل المعنى الأهم الذى خرج به من المحنة هو ألا يكون أسيرًا للأيديولوجية، أو للتعصب للرأى، وإن ظل محافظًا على انحيازات إنسانية عامة.
يدين الرفاعى للصداقة وللأصدقاء، مثلما يدين لهواية صيد السمك التى أنقذته من الخمور والقمار، وحديثه عن الصيد ممتع ومشوق، ويدين كذلك للكتب التى ترجمها بكثيرٍ من المعرفة، ويدين أكثر لثقافة الحياة المباشرة، للناس وللأماكن، لمغامرات الطفولة ونزقها، ولرحلة حياة كاملة، بحث فيها دومًا عن الدائرة المغلقة، من منطقة السادس من أكتوبر إلى واحة سيوة، ولكن الزمن لا يعود أبدًا إلى الوراء، والأحلام ينتهى تاريخ صلاحيتها، أو كما قالت الست فى أغنيتها: «وعايزنا نرجع زى زمان / قول للزمان ارجع يا زمان».
ولأنها حكاية كتبت ونسجت من البساطة والصدق، سيسكن الكتاب قلبك، وستحب الرجل وشخصياته وزمنه، وستشكر له أنه أخذنا إلى دوائره المغلقة، وأنه أهدانا بكل تواضع خلاصة حياة وعصر وصفحات ثرية من تاريخ الوطن.

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة