خواطر في ليلة العيد
الإثنين 8 أبريل 2024 - 7:55 م
لليلة العيد فرحة خاصة بفطر شهر رمضان، ونستبشر فيها خيرا بقبوله، سبحانه وتعالى، صيامنا وطاعاتنا وصالح أعمالنا، ونسأله أن يجعل لنا ولأمتنا من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، وألا يجعل لظالم علينا سلطانا. تعيد أجواء تلك الليلة الطمأنينة إلى الروح تحررها من الأسى، وتقشع الضباب أمام الأبصار. ويحضر المتنبي فجأة، وهو ينشد: «عيد بأية حال عدت يا عيد، بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد». أطارده، حتى لا يحضر الوجع، ولا سرديات مدن انطفأت قناديلها، وانكسرت مآذنها وأجراس كنائسها، وصمت كل المغنّين والمنشدين فيها، وبات أطفالها غير قادرين على البكاء بسبب الجوع.
يروي الشاعر رسول حمزاتوف قصة من قديم الزمان، حينما اقتحم راعي غنم مسجد قرية داغستانية دون أن يخلع حذاءه، فصرخ به المصلون: "أيها المارق، يجب أن تخلع حذاءك قبل دخول المسجد"، فأجاب: "يوجد تراب على حذائي، من وادي قريتنا، وواديها أغلى من كل هذا السجاد، لأن العدو قد غزا وادينا وسيطر عليه". أسرع المصلون وغادروا المسجد، وانطلقوا فوق جيادهم، لحماية قريتهم وواديها. كم من مُتنبيّ يتذكر في ليلة العيد مدنا عربية شوَّهها القبح والشر "وما بأنفسهم"، مدنا كانت منارات مضيئة ترشد الضالين، وتنذر الجائرين، مملوءة بالعنفوان والحرية والتعايش والألفة.
تحضر سرة الأرض، في تلك الليلة، وهي تُرتِّل ما تيسر من الكتاب، ووصايا المحبة والإنسانية العشر الربانية، وتحصي الأنبياء الذين مروا على ترابها المبارك. تحضر صور أبناء القدس وهم واقفون وحدهم في عراء زمنها الأسير، يكبر جرحها ويتسع كل يوم، وحينما تبكي القدس، "لا يأتي بعد بكائها مطر" كما يقول شاعر عربي، وتنتظر أن تصهل في مفاصلها "الخيول"، وتخشى "بقرة حمراء"، بلون الدم والإعياء والعنف. تحضر مدن سلَّمت مفاتيحها للكوابيس الثقيلة، بعد أن كانت مسكونة بروح العروبة "السمحة" وبوجه "ضاحك القسمات طلق"، ودار حكمة وفرح ومسرة وحوار. مدن أنهكها الفساد أو الحماقة أو الغلاة أو البغاة، وانفرطت فيها أعمدة وطن، وقتلت أحلام النهوض، وفتحت أبواب أسوارها أمام حروب الآخرين العلنية والسرية على ملاعبها. مدن تئن وتنزف، تجوع وتتفتت، بعد أن كانت "قصائد تكتب شعراءها".. ويسأل "متنبيّ": كم مدينة ستبقى إذا انتصر المغول والغراب؟ تذكرت بمناسبة ليلة العيد قصة "الأمير السعيد والسنونو" التي قرأها أطفالنا قبل عقود، وكتبها الشاعر والكاتب المسرحي أوسكار وايلد، ونشرها في أواخر القرن التاسع عشر. لخصت القصة حكاية خرافية اشتهرت حتى يومنا هذا، لم تكن للأطفال فقط، وإنما للبالغين أيضا من حالمين وصوفيين وحكماء.
تدور القصة حول طائر سنونو حلَّق ذات ليلة باردة فوق مدينة حزينة، لم يبلله المطر منذ بدء الشتاء، لأنه كان يفترش الغيمة، ورأى تمثالا للأمير السعيد في مكان عالٍ يطل على المدينة مغطى بالذهب الخالص، وعينان من الياقوت اللامع، وجوهرة حمراء كبيرة تومض على مقبض سيف الأمير. هبط طائر السنونو الرشيق عند قدمي التمثال، سقطت قطرة ماء عليه، نظر إلى السماء، لم يجد سحابة، والنجوم واضحة، لكنه رأى عيني التمثال مملوءتين بالدموع، فسأله الطائر لماذا تبكي؟ أجابه: حينما كنت حيا، كان كل شيء حولي جميلا وسعيدا، أما اليوم، ومن مكاني هذا، يمكنني رؤية كل حزن وبؤس أهل المدينة، ولا أستطيع عمل أي شيء سوى البكاء. انظر.. هناك بيت فقير نوافذه مفتوحة، وامرأة حزينة، وطفلها جائع ومريض. وقال الأمير التمثال: أيها السنونو، خذ هذه الجوهرة، وطر بها إلى هذا البيت. نفذ الطير ما طلبه الأمير التمثال، وروَّح بجناحيه على جبين الصبي، ووضع الجوهرة أمام المرأة، وعاد إلى التمثال.
واصل السنونو تحليقه مصفّقا بجناحيه في السماء، وموزعا الذهب والياقوت والحلي والمحبة التي تملأ قلب التمثال وعينيه وجسده ومقبض سيفه، على أبناء المدينة الحزينة، من فقراء وأطفال جوعى ومرضى وبؤساء، حتى انكسر التمثال، ومات الطائر، وهو يعانق ما تبقى من تمثال الأمير. ويجيء عمدة المدينة يوماً، ويزيل بقايا التمثال، ويلقي به على كومة غبار، حيث يرقد السنونو الميت.
تتجلى رحمة الله ومحبته حتى في تمثال يتفتت قطعة قطعة، وفي طائر سنونو يكشف جوهر الإنسانية في دواخلنا.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا