سيرة بنى نخطاى
السبت 7 يونيو 2025 - 5:20 م
هذه الرواية من أفضل ما قرأت هذا العام، ومن أفضل ما قرأت من أعمال مؤلفها الكاتب المعتبر عادل عصمت، الذى برع فى التقاط لحظات التغيّر والتحول، عبر شخصيات نابضة بالحياة وبالتفاصيل فى مدن وقرى الدلتا.
ولكن الرواية الصادرة عن دار الكتب خان بعنوان «فى نهاية الزمان» تتجاوز رؤيته الجزئية فى أعماله السابقة، لتنفتح على عالم متسع، وزمن أكبر وأعمق، ورغم كثرة الشخصيات، والبناء غير التقليدى الحرّ للسرد، فإننا لا نفتقد النغمة ولا المعنى، ولا تلك «التيمة» التى تمسك بحبّات العقد، وسط زمن سائل متحوّل، وفى شكل أقرب إلى الملحمة. تعبّر الملحمة عن رحلة بطولة واسعة لجماعة من البشر، وتتميز بعددٍ وفير من الشخصيات والأحداث، وتتخللها صراعات قوية، وقد يمتزج فيها الواقع بالأسطورة.
فى روايتنا كل هذه الملامح، ولكن من دون صراخ، أو صوت عال، ومن دون تنميط من أى نوع، لا على مستوى الشخصيات الأقرب إلى «الأبطال الضد المهزومين والمأزومين»، ولا على مستوى التضخيم والمبالغة. إننا ببساطة أمام الحياة بكل عاديتها المدهشة.
تحضر من جديد قرية نخطاى، التى ظهرت فى أعمال عصمت السابقة، ولكن حضورها هذه المرة عبر فترة زمنية طويلة، وباستخدام عدسة مكبّرة هائلة، لا تفلت شيئًا، من بداية الزمان، فى قرية منعزلة عن العالم، يتجمد فيها الوقت، وصولًا إلى أيامنا الراهنة، أو نهاية الزمان.
نشاهد البشر وهم يصنعون الحياة، ويعانون منها، يدافعون عن حقهم فى البقاء، ويموتون موتا مجانيا عبر الجوع والظلم والقهر والحرائق والأوبئة، يزرعون النخيل، ثم يقلعونه ليبنوا العمارات فوق الأرض الزراعية، يخرجون من نخطاى ليعودوا إليها، ويكتبوا عنها. نتأمل معنى سيرة نخطاى باعتبارها حكاية «أحياء يعيشون كالموتى»، يبحثون عبثا عن العدل والفرح، علاقتهم مؤلمة بالسلطة على مرّ العصور، فى إطار معادلة لا تتغيّر: «من يملك يحكم، ومن يحكم يملك».
بدت لى عناصر الملحمة مكتملة، ولكن بعد تحويرات معاصرة، فالصراع لا يهدأ من أول الرواية إلى آخرها، والزمن يتسلل مثل ثعبان فى أنحاء نخطاى، فيغيّر ويبدل كل شىء، والبطولات صغيرة ومحدودة، لعل أولها أن تحافظ على حياتك، وأن يصبح اسمك فى قيد الأحياء لا الأموات.
حفظ النفس أولًا، ثم محاولة تحسين الظروف قدر الإمكان، والخروج من نخطاى قد يتم بالمغادرة والصعود الاجتماعى، ولكن الصراع ينتقل إلى داخل الشخصية، نخطاى هناك فى الذاكرة والقلب، هى الجلد الذى لا يمكن الانسلاخ عنه.
يقطع عصمت خطوة أخرى جسورة، بتفكيك الملحمة، التى تأخذ عادة شكل السرد الخطى من البداية إلى النهاية، إلى لوحات منفصلة متصلة، قد يكون بطل كل لوحة شخصية واقعية، أو ظاهرة مثل الحرائق وظهور أول قطار، وقد يكون شخصية أسطورية مثل أم الجلاجل. بناء حرّ يعيد تشكيل الزمن رأسيا، ويجعل من السيرة لوحة واحدة، فالشخصيات تعاود الظهور من جديد، وكأنها لا تموت، وكأنها انتصرت فى حرب الزمن، وصارت باقية راسخة فى سطور حكاية واحدة.
هذا التفكيك مقصود لأن الهدف هو الإمساك بالروح والمعنى، وليس السرد الخطى البسيط، المقصود هو الاكتشاف والتأمل، والابتعاد مسافة بسيطة لكى ترى اللوحة أوضح فى تمامها.
ومع ذلك، فإن ثلاثة أحداث تلضم السرد الحر بخيطٍ رفيع: الأول؛ خيالى أسطورى رمزى، وهو خروج جثة من الجبّ الغامض فى البيت القديم لآل راضى، لكى تطلب أن يُصلّى عليها فى المسجد. والثانى؛ هو قيام عصابة من شباب القرية بسرقة بيوتها، والقبض عليهم، ومحاكمة زعيمهم. والثالث؛ هو قيام سامى العفيفى، الصحفى والشاعر وابن نخطاي، بكتابة حلقات مسلسلة عن قريته، ثم تفكيره فى كتابة رواية عنها.
ومثلما يعاد تشكيل الزمن بحرفة ماهرة خفيّة، تستعاد بنية القرية مكانًا وبشرًا: فى قمتها العائلتان الثريتان آل راضى وآل السعدنى، بينما تبدو الغالبية الساحقة من فئة المهمشين والغلابة، تنتزع أرض الأغنياء، وتوزع القراريط ليزرعها الفقراء، ولكن الأغنياء يستعيدونها من جديد، ثم تجرّف الأرض، وتصبح عمارات، ويعمل الزمن على تغيير كل شىء.
وتدان كبيران من الماضى فى الرواية؛ هما الشيخ محمد المهدى، ذاكرة القرية، وسلطتها الدينية المستنيرة، والحاجة نفيسة، رمز السلطة والثروة الغاربة، وعناوين كثيرة على القهر والتهميش من عبده الجن، وخيرى ابن أخته، خريج الشريعة الذى تحوّل إلى لص، ومثل سامية ضحية الحب والمرض. واثنان من عناوين الخروج دون القدرة على الانسلاخ؛ هما: سامى الشاعر والصحفى، وموسى، القاضى الذى يسكنه الماضى، بالإضافة إلى طوفان من الشخصيات الأخرى التى تحكى قصصها، بالضبط مثل شجرة وارفة متعددة الفروع.
والحكى فى الرواية هو الوجود الحقيقى، بنو نخطاى لا يتوقفون عن الحكى، ويشاركون فى التأليف والإضافة، الحكى حياة لا تموت، يهربون من إحباطهم بالخيال والأسطورة، كما يهربون إلى المقدس.
الرواية فى سردها الحرّ تكاد تترجم هذه الرغبة لدى أهل نخطاى فى توليد القصص من بعضها، وفى دمج الواقعى بالأسطورى، وفى تحقيق الخلود الوحيد الممكن للمهمشين، بأن يكونوا أبطالا فى رواية يحفظها الزمن.
نظلم النصّ البديع لو نظرنا إليه فقط كوثيقة اجتماعية عن قرية فى الدلتا عبر التاريخ، لأن نخطاى، كما سنكتشف عبر الحكايات وحدها، إنما هى مجاز لرحلة المصريين جميعا فى تيار الزمن. هذه القرية تصلح عنوانًا لحكايات البقاء وصنع الحياة من ثقب إبرة على ضفاف النيل، وعنوانا على ترويض الواقع الخشن، وعنوانا أيضا على إشكالية الفرد والسلطة، وترجمة لأشواق العدل والتكافؤ.
وإذ لا يحمل الشاب الميت العائد إلى الحياة اسما ولا هوية، وإذ يفتقد الخلاص والصلاة عليه والبعث حتى بعد موته، فإن ملحمة بنى نخطاى، تترك فى النفوس قلقا وشجنا لا يزول. ذلك أن صنّاع الحياة ما زالوا فى جُب البيت القديم، رغم فناء صاحب اليد الخشبية، الذى كان يجبرهم على تقبيلها.
هذه رواية مهمة جديرة بأرفع الجوائز.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا