ما معنى أن يتمّ الحديث اليوم عن أنّ الاقتصاد السورى سيكون فى المرحلة المقبلة «اقتصادًا حرًّا»؟ ليس فقط لأنّ الاقتصاد لم يكُن «اشتراكيًا» فى السابق، بل لأنّ التحدّيات الأساسية بعد سنوات العقوبات القاسية - التى بالمناسبة لم ترفع كاملة حتّى الآن رغم الإعلانات، والحرب الأهليّة هى إعادة عجلة الإنتاج والتشغيل والإعمار والحدّ من الفقر وتوحيد البلاد وعودة كريمة للنازحين واللاجئين. فهل هذا ممكن دون تدخّل من الدولة؟ ودون سياسة حكوميّة واضحة؟
ليس تدخّل الدولة بعد كارثةٍ اقتصادية واجتماعيّة نهجًا اشتراكيًا. إذ كان ذلك نهج الرئيس الأمريكى فرانكلين ديلانو روزفلت بعد كارثة الانهيار الأمريكى والعالمى سنة 1929. فقد أطلق برنامج «الصفقة الجديدة» (New Deal) الذى تضمّن دعم الزراعة وأسعار منتجاتها، وإصلاح القطاع الصناعى وكبح الاحتكارات، وإعادة الثقة بالقطاع المصرفى المنهار مع ضوابط قاسية، وخلق مؤسسات الضمان الاجتماعى والتأمين الصحى لمكافحة الفقر.. ومن مقولاته الشهيرة، علينا أن نكافح أعداء السلام القدامى - احتكارات الأعمال والتمويل، والمضاربات، والمعاملات المصرفية المتهوّرة، والصدام الطبقى، والمحسوبيّة، ومستغلّى الحروب. هؤلاء جميعًا اعتبروا أنّ حكومة الولايات المتحدة مجرّد ملحقٍ بشئونهم الخاصة. ونحن نُدرك الآن أن الحكم عبر المال المنظّم لا يقل خطورةً عن حكم المافيات المنظمة".
ألا تشبه أوضاع سوريا الكارثيّة الحاليّة تلك التى سادت الولايات المتحدة وغيرها من دول العالم بعد أزمة 1929؟ ألا تحتاج حقيقةً إلى برنامج حكومى واضح للنهوض من جديد بالقطاع الزراعى وبالريّ الحديث كى تستعيد البلاد أمنها الغذائي؟ خاصّةً أنّ السنة الحالية سنة قحطٍ وجفاف قاسية تتزامن مع انهيارٍ فى الإنتاج الضعيف أصلًا. وذلك أنّ الكثير من السدود المهمة فى حالةٍ ردئية (بل هى معرّضة للانهيار) لضعف الصيانة من جرّاء العقوبات.
وألا يحتاج القطاع الصناعى إلى دعم وحماية وكبح كلّ أشكال الاحتكار، بدل فتح الاستيراد على مصراعيه، لإحياء الإنتاج والمنافسة؟ أم تكفى المهرجانات والإعلانات عن استثمارات غير واضحة الأطر؟ وهل نهض جنوب شرق الأناضول فى تركيا دون سياسة دعم حكوميّة؟ وأليس مشروع السعودية 2030 خطّة حكوميّة؟ وهل يُمكِن لسوريا الاستفادة من بعض ميّزات الإنتاج اللبنانى وتجنّب مساوئ اقتصاده المدعو "حرًّا" والذى تهيمن عليه احتكارات مختلفة؟
• • •
والسؤال الكبير هو هل يُمكِن مكافحة الفقر فى سوريا الذى يتخطّى منسوبه 80% من السكّان دون سياسة حكوميّة؟ هذا فى حين أنّ المساعدات الخارجيّة عبر منظّمات الأمم المتحدة وغيرها قد انخفضت بشكلٍ كبير. هل يكفى الإعلان عن إنشاء مستشفيات خاصّة دون نظام ضمان صحيّ؟ وماذا عن غياب التعليم الأساسى عن نصف الأطفال السوريين؟ هل يُعالج هذا بالاقتصاد "الحرّ"؟ أو بإنشاء جامعات خاصّة تُعنى "بالذكاء الاصطناعي"؟
ثمّ كيف ستعود الكهرباء إلى سوريا، مدنًا وأريافًا؟ أتتمّ معالجة الهدر فى الشبكة أوّلًا أم زيادة الإنتاج؟ وماذا عن أوضاع شركات الكهرباء التى تمّ إنشاؤها فى شمال غرب سوريا (غرين أنيرجى، وآ ك إنيرجى، وإس تى إى) والتى تؤمّن اليوم الكهرباء بالأسعار العالميّة وبالدفع المسبق فى إدلب وأعزاز وغيرهما؟ هل تمّ الإفصاح عن مساهميها وأرقام أعمالها ووضعها ضمن قانونٍ سورى. ثمّ ما هى خطّة الاستثمار والأطر للمليارات التى أعلنها فى هذا المجال؟
وما سياسة الحكومة حول قطاع الاتصالات، الأكثر درًّا للموارد المالية للدولة؟ ما وضعه القانونى بعد مصادرة حصّة أزلام السلطة البائدة؟ لا سيّما وأنّه كان قد وُضِعَ تحت الحراسة القانونيّة، فى حين أُعيد الآن التداول بأسهمه فى البورصة (!) وما مآلاته؟ أسيتمّ بيعه ورخص استثماره دون مزايدات عالميّة؟
• • •
والآن وقد بدأ النازحون بالعودة إلى مناطقهم - خاصّة أن المساعدات فى مناطق نزوحهم قد عرفت تقلّصًا كبيرًا - وكذلك بعض اللاجئين فى الخارج، ألا تحتاج سوريا إلى برامج تخطيط إقليمى وعمرانى «لإعادة الإعمار» مّا يؤمّن السكن اللائق - الذى هو حقّ لكلّ مواطن - وبحيث لا تكون مضاربات عقاريّة، كما كان حال مشروع «حلم حمص» أو «ماروتا» سابقًا، وسفح قاسيون حاليًّا أم تُترَك الأمور دون ضوابط مع كلّ الإشكاليّات العقاريّة التى نتجت عن الحرب؟!
ثمّ ماذا عن توحيد الأرضى السوريّة؟ وعن الإفصاح عن ميزانيّات حكومات «الإنقاذ» و«المؤقتة» السابقة لاستلهام المسارات المستقبليّة، وعن توحيد المؤسسات التى أُنشئت فى ظلّها ضمن قوانين سورية واحدة، المؤسسات الخدميّة والمؤسسات الخاصّة، كمثال «بنك الشام»، الذى يؤطّر تطبيق «شام كاش»، والذى يُفترَض أن يخضع لأطر المصرف المركزى بعد تحديثها؟ وماذا عن توحيد الجهود الخدميّة تجاه المواطنين مع «الإدارة الذاتية» فى شمال شرق سوريا (التى بالمناسبة تنشر ميزانيّاتها بشفافيّة)، كمدخل للاندماج فى الدولة الواحدة.. وإن تمّ ذلك تدريجيًّا. لقد أضحت الولايات المتحدة اليوم وراء الطرفين، فلماذا يسود التنافر بدل التعاون العمليّ بغية النهوض بكل المناطق؟ وبالتالى هل تتوحّد الأرض السوريّة.. عبر رفع شعار «الاقتصاد الحرّ» وحده؟
وأين حقًّا «الاقتصاد الحرّ» هذا فى حين يتمّ كبح السيولة بالعملة السوريّة بشكلٍ مقصود، كى يرتفع سعر صرف الليرة السوريّة دون منطِق؟ مع ما يرافق ذلك من خفض قيمة أهمّ مورد للاقتصاد السورى حاليًّا، وهى تحويلات المغتربين التى تتخطّى الأربع مليارات دولار سنويًّا، ومع تحويل الاقتصاد السورى إلى اقتصاد كاش بالعملة الصعبة؟ عملة صعبة تدفع بها أجور الموظّفين والمستشارين الحكوميين الجدد، من دون أيّة شفافيّة أو عدالة. واقتصاد كاش يعطِّل دور المصارف، فيما البلاد فى أمسّ الحاجة لدورها، هى ومصارف القروض الصغيرة، فى تفعيل النشاط الاقتصادى، أليست هذه سياسة حكوميّة؟
إنّ دعاة «الاقتصاد الحرّ» فى زمن الأزمات يقومون بتصفية حسابات قديمة لا معنى لها. فهل القصد هو العودة عن الإصلاح الزراعى أو تأميم المصانع فى نهاية الخمسينات لاستمالة بعض الطبقات الاجتماعيّة؟ هذه الطبقات الاجتماعيّة تغيّرت أصلًا أدوارها عبر المراحل المختلفة التى مرّت بها سوريا والمنطقة. أم هم يدعون لذلك بغية تصفية القطاع العام الإنتاجى؟ مع العلم أنّ قيمته اليوم تقوم على قيمة الأرض التى شيّد عليها، سوى بعض الحالات التى تستدعى بالضرورة تحديثًا. والواضح أنّ بعض عمليّات البيع تُنجَز اليوم دون شفافيّة، كما التسويات مع أمراء الحرب السابقين.
أم أنّ فى الدعوة إلى «الاقتصاد الحرّ» تورية عن عدم الخوض فى التحديات التى تواجه الاقتصاد والمجتمع السورى وتهرّب عن وضع برامج وسياسات إصلاحيّة ستواجه حكمًا المصالح الكبرى، خاصّةً لأمراء الحرب من جميع الأطراف؟
• • •
لا ينتقِص كلّ ما ورد أعلاه من الجهود الحقيقيّة والنشِطة التى يبذلها بعض المسئولين الحاليين، من خارج «حكومة الإنقاذ» أم من داخلها، لإعادة وضع الاقتصاد وماليّة الدولة السوريّة على أسس سليمة. وهى جهودٌ لا ينبغى الاستهانة بها فى ظلّ الظروف الحالية. لكنّ المسئوليّة الحقيقيّة تكمُن الشفافيّة والصراحة والمواجهة الحقيقيّة للتحديّات الأساسيّة، وليس الهروب نحو نقاشات لا معنى لها حول شعارات فضفاضة أو مهرجانات استعراضيّة.
السوريون كلّهم يريدون اقتصاد «حرّ» حقيقى، يأتى لهم "بالكرامة". اقتصادٌ يعتمد برامج عمل تعالج آثار الكارثة الوطنيّة التى حلّت بهم، ويكبح الاحتكارات وهيمنة أمراء الحرب. ولن ينهض السوريّون ببلدهم حقًّا، قبل المستثمرين الخارجيين، إلاّ إذا كانت هناك دولة تقوم على العدالة والإنصاف والشفافيّة والمساءلة.
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية - ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
الاقتباس:
الدعوة إلى «الاقتصاد الحرّ» تورية عن عدم الخوض فى التحديات التى تواجه الاقتصاد والمجتمع السورى وتهرّبٌ عن وضع برامج وسياسات إصلاحيّة ستواجه حكمًا المصالح الكبرى خاصّة لأمراء الحرب من جميع الأطراف؟