كيف صار دمنا رخيصًا.. لسنا دروعًا ولستم بشرًا!

الجمعة 4 أكتوبر 2024 - 6:25 م

صار هذا التراشق القصير عنوان الحرب الإسرائيلية القاتلة ضد أهالى غزة والضفة الغربية وفى لبنان وسوريا.

استثمرت إسرائيل الكثير حتى صار من تقتلهم من العرب ومن سكان المناطق التى تحتلها والدول المجاورة مجرد دروع هشة تقف بينهم وبين خصوم الدولة الصهيونية. وعندما تواجه إسرائيل مقولات بأن هذه الدروع المفترضة لا تشارك فى القتال ثم إنها جميعا من بنى البشر الذين تتعين حمايتهم وتفادى الإضرار بهم، حتى لو تصادف وجودهم فى ميدان حرب، كان الرد جاهزا: قانون الحرب يجرم استعمال البشر دروعا، ولكنه لا يجرم الفتك بهم، فإذا اعترضت قائلاً إن هذا القانون نفسه يضع شروطا قاسية على استهداف المدنيين ومنشآتهم ولو حتى عرضا، يردون عليك: هم أساسًا ليسوا بشرًا ومنشآتهم يختبئ تحتها «الإرهابيون» وأسلحتهم.

تقنيًا، لا شك فى أن القوات المسلّحة الإسرائيلية تستطيع القيام بهذا، وقد فعلته بلا هوادة وبتصعيد مستمر فى النطاق والقوة والأهداف وعدد الضحايا المدنيين منذ قيامها فى عام 1948. ومع الاستثمار المتزايد فى التبرير العسكرى وبناء ترسانة قانونية وحزمة سياسات وعقوبات دولية واسعة التأثير، تقوم كلها مجتمعة بوصم أعمال المقاومة المسلحة (المشروع منها وغير المشروع) بأنها إرهاب، باتت إسرائيل تمتلك غطاء مكتملاً من المبررات والأفكار (أيديولوجيا متكاملة ومهيمنة)  لضرب أى هدف من دون تمييز بين ما هو عسكرى وما هو مدنى، ومن دون تناسب على الإطلاق بين الفائدة العسكرية المرجوة والخسائر الفادحة بين المدنيين والبنية التحتية للبشر، ومن دون خشية من رد فعل الأطراف القادرة والمعنية، والتى باتت فى معظمها من واشنطن إلى موسكو إما لا مبالية بهذه الممارسات الدموية أو متورطة فيها هى ذاتها وبشكل مباشر أحيانًا ضد أعدائها وخصومها.

ابتدعت الأكاديميات العسكرية الغربية مصطلح «الخسائر العرضية» لوصف مقتل المدنيين الأبرياء خلال النزاعات المسلحة، بمعنى أن القتل لم يكن مقصودًا بل عارضًا أثناء السعى إلى قتل هدف مشروع! ونظم القانون الدولى هذا عن طريق مبادئ ومحاذير عدة، منها:

التمييز: يجب التمييز بين المواقع العسكرية الممكن استهدافها وتلك المدنية، حتى لو مجاورة ولصيقة لها.

الفائدة العسكرية: أن تكون النتيجة المشروعة أكبر من الخسائر العرضية ــ وهو أمر صعب القياس للغاية ــ ولكن الأرقام الصارخة حول ضحايا المدنيين والاستهداف المجانى لهم فى العقود الماضية تكذّب ادعاءات إسرائيل والفاعلين المشابهين لها.

التناسب: عندما يشمل رد الفعل ضرب أهداف مشروعة، يجب أن يكون هناك تناسب ما مع الفعل الذى استدعى هذا الانتقام.

• • •

ما يحصل هو ببساطة تكريس النظر إلى مجموعات بشرية على أنها أقل أهمية من البشر «الآخرين»، «أقل بشرية» أو «حيوانات بشرية» كما قال وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف جالانت صراحة فى أكتوبر الماضى ليصير قتلها بأعداد هائلة أمرًا مقبولاً لتحقيق هدف عسكرى حتى لو كان وقائيًا واستباقيًا وواهيًا وليس دفاعًا حقيقيًا عن النفس، وبإفراط هائل فى استعمال القوة.

هذا التكريس مصحوب بإضعاف وتجاهل لقواعد القوانين الدولية والوطنية ومؤسسات الحوكمة الدولية مثل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية. هكذا يصبح ما تفعله إسرائيل الآن مقبولاً، والثمن المدفوع مستحقًا من وجهة نظر مؤيديها من واشنطن إلى أمستردام.

كان هذا التمييز العنصرى بين المجموعات البشرية سائدًا ومقبولاً على المستويين النظرى والفعلى حتى منتصف القرن العشرين، فاتفاقات جنيف والقانون الدولى الإنسانى لم تكن تحمى أهالى المستعمرات والسكان المحليين بوضوح، لذا عندما كان المستعمرون الغربيون يقتلون الأهالى جماعيًا فى الكونغو أو جنوب إفريقيا، فى ليبيا أو العراق، فى الهند أو فيتنام، لم تكن أفعالهم انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي، ولم يتغير هذا الأمر سوى مع نهاية عهد الاستعمار ووضع البروتوكول الإضافى لاتفاقات جنيف. ترك هذا التعديل مشكلة معقدة أمام الدول المتورطة فى أشكال جديدة من الاستعمار، وفى مقدمها إسرائيل، الدولة الاستعمارية الوحيدة الباقية تقريبًا فى العصر الراهن.

• • •

المشكلة التى واجهت المخطّطين العسكريين أو أجهزة الأمن الداخلى فى هذه الدول هى كيف بإمكانهم خوض حروب وتنظيم عمليات أمنية تنجم عنها خسائر هائلة بين بشر غير مشاركين فى القتال تصادف وجودهم بجوار الهدف، وفى الوقت نفسه الحفاظ على الادعاء بأنها تحترم القانون الدولى الإنسانى المنظم للحروب، بخاصة ما يتعلق بالتناسبية والميزة العسكرية وبذل أقصى جهد لحماية المدنيين.

 إضافة الى هذه المعضلة القانونية، هناك أيضًا مشكلة أخلاقية تبدأ من الوصايا العشر ولا تنتهى فى العصر الحديث بشأن تحريم القتل وتجريمه، على الأقل عندما تنتفى أى مسوغات أخلاقية قوية، أو على سبيل الخطأ.

وفّر القانون الدولى بعض الحلول التقنية مثل أن تكون الفائدة العسكرية المرجوة من هذا القتل العرضى تبرّره، وأن تُجرى محاولات جادة للتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنيين ومنشآتهم، وأن تكون الخسائر متناسبة. لكن هذا الحل المُقيّد نسبيًا لا يطلق أيدى الجيش الإسرائيلى على رغم أنهم يدعون طول الوقت بأنهم يبذلون جهدًا لتفادى هذا القتل، بخاصة عندما يصبح ثمن كل قتيل بين المقاتلين أرواح عشرات أو مئات من النساء والأطفال والرجال المدنيين (نسبة المدنيين القتلى فى أكثر التقديرات تحفظًا سبعين فى المائة من بين القتلى جميعًا).

لذا لم يكن الحل الناجع الأبسط من وجهة نظر الإسرائيليين والاستعماريين عمومًا حلًا قانونيًا، بل إعلاميًا وأيديولوجيًا وعنصريًا: هؤلاء القتلى ليسوا بشرًا، مجرد حيوانات يصبح قتلها بأعداد مفرطة لحماية البشر الحقيقيين، وهم الإسرائيليون فى هذه الحالة، أمرًا مباحًا، والمسئول عنه هو على أى حال الخصم الذى يحتمى خلفهم.

• • •

لا محل لمناقشة نفى البشرية عن أناس يمتلكونها بقوة التعريف ذاته، ولكنْ هناك مجال لتصويرهم بأنهم همج وبرابرة «يستعملون أطفالهم لحماية الصواريخ وليس الصواريخ لحماية أهاليهم»، كما قال نتنياهو منذ سنوات عدة.

 وبسهولة، يمكن مدّ وصمة الهمجية والبربرية من المسلحين إلى من حولهم والمرشحين ليصبحوا أعضاء فى جماعة المقاومة، وهو مد قد يصل إلى حدود مجنونة كما فعلها معلق أوروبى قائلًا إن كل امرأة فلسطينية تحمل فى رحمها مشروع إرهابي. وبالطبع، فإن الوصم بالإرهاب، ذلك المصطلح المبهم قانونًا، يحول البشر أوتوماتيكيًا ومن دون محاكمة إلى أهداف مشروعة.

يعتمد التنظير لتبرير قتل المدنيين على ماكينة ضخمة كما يوضح باحث حقوق الإنسان الإسرائيلى ديڤ جوردون. وهناك عدد لا بأس به من مراكز البحث والسياسات التى توفر أطرًا قانونية ودعائية لتبرير القتل، ومنها مركز الاستخبارات ومعلومات الإرهاب الدولى وثيق الصلة بالموساد، وعلى صفحته 65 دراسة وتقريرًا تحلل وتبرر إزهاق أرواح المدنيين بصفتهم خسائر عرضية. تأسس هذا المركز فى عام 2001، عندما أدركت إسرائيل والعالم الغربى بعد هجمات 11 سبتمبر، أن تقنيات خوض حرب غير نظامية تقتضى تبرير قتل عدد هائل من المدنيين ليس فقط فى مواجهات مع عدو يطلق عليهم النار، ولكن حتى فى هجمات وضربات استباقية وقائية تسعى الى قتل الخصوم وإضعاف تجهيزاتهم.

 ويبدو الآن، أن إسرائيل ذاتها وخلفها عدد من الدول القوية عسكريًا واقتصاديًا، والتى تدعى أنها تلتزم بالقانون الدولى وحقوق الإنسان، تواصل تسمير نعش هذه القوانين والمعايير التى تقوم على التساوى بين البشر، كل البشر. وهكذا تعلن حرب إسرائيل على غزة ولبنان أن الناس هناك والمعرضين لقتل يومى من ترسانة أسلحة فائقة التكنولوجيا، ليسوا بشرًا ولا يتمتعون بحمايات القانون الدولى، وتصبح أجسادهم الهشة قابلة للفناء السريع، فلا هى نفعت كدروع يستغلها خصم أو حتى لحماية أصحابها.

خالد منصور

موقع درج

النص الأصلى 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2024 - جميع الحقوق محفوظة