لقاءات قاهرية لا تنسى مع سيد الرواية العربية.. تجوال فى أماكن الجغرافيا المحفوظية برفقة جمال الغيطانى (1-5)
الخميس 4 سبتمبر 2025 - 6:55 م
كان ذلك قبل زمن لا بأس بطوله من لقائى الأول بمعلمنا نجيب محفوظ فى القاهرة. وهو لقاء كان له فى حياتى ومسارى الكتابى نكهة خاصة لم تتلاش حتى اليوم. كان ذلك أواسط سبعينيات القرن العشرين وكنت، كما الحال بالنسبة إلى معظم أبناء جيلى، قد قرأت كل ما تيسر لى من كتب نجيب محفوظ دون أن ألتقى به رغم أن زياراتى المنتظمة إلى القاهرة كانت قد بدأت قبل ذلك بسنوات. لكن مناسبة ما، وربما فى بغداد جمعتنى يوما بجمال الغيطانى الذى سرعان ما ارتبطت معه بصداقة كبيرة بات يوسف القعيد طرفا ثالثا، ثم أساسيا فيها، ولا سيما حين بات لا بد فى أية زيارة للقاهرة أن أمضى معهما، ودائما معا، مساءات عديدة نتحادث خلالها حول كل شىء وبخاصة حول نجيب محفوظ الذى أضحى هوانا المشترك، حتى دون أن تسمح لى الظروف بلقائه.
ذات يوم وكان الغيطانى يزورنى فى بيروت فاجأنى بأن طلب منى أن أكون دليله فى جولة بيروتية تأخذنا إلى الأماكن والزوايا التى حكى محمد عيتانى عنها فى كتابه «أشياء لا تموت» مؤكدا أننى لو فعلت سوف أتلقى منه «هدية» قاهرية لن أنساها أبدا. تجولت مع الغيطانى إذا، فى أماكن محمد عيتانى. وبعد شهور ما إن وصلت إلى القاهرة حتى اتصل بى الغيطانى طالبا منى أن أستعد غدا صباحا لتلقى هديتى القاهرية الموعودة التى ستبدأ بعد وجبة حمام دسمة نتقاسمها فى أحد مطاعم «سيدنا الحسين». اعترضت بأننى لا أحب أكل الحمام. فقال: «تأكل ما تشاء ثم تتلقى الهدية!». وبالفعل هذا ما سيكون الأمر عليه. لم آكل الحمام طبعا لكن الهدية ستكون بالنسبة لى أطيب من مائة وجبة حمام! كانت جولة اصطحبنى الغيطانى فيها إلى ما تعارفنا على تسميته «جولة فى الجغرافيا المحفوظية». ويا لها من جولة! ويا لها من هدية!
اليوم بعد ما يقارب نصف القرن لن أتردد فى أن أقول إن ما قدمه لى الغيطانى كان على الأرجح، أجمل هدية تلقيتها فى حياتى. أولا لأنها كانت جولة ممتعة، ثم لأنها وضعتنى مباشرة على تماس مع تلك الأماكن التى كانت تبدو لى أسطورية تنتمى إلى عالم الخرافة قبل ذلك، ولكن ثالثا وبصورة خاصة لأن جمال الغيطانى كان هو الرفيق خلالها. وهو الرفيق الأمثل والأكثر تواضعا الذى كان يمكنه مرافقتى حيث عرف كيف يمحى نفسه تماما، رغم أن شهرته ومكانته كانتا تتضخمان فى ذلك الحين، متماهيا مع محفوظ ورواياته وشخصيات تلك الروايات، عابرا بى أسواق الجمالية ودرب قرمز ومدرسة خليل آغا والأزقة الفاصلة بين خان الخليلى والعباسية ومتاجر الموسكى والزحام قرب سيدنا الحسين وربما أيضا، الدروب المؤدية إلى السيدة زينب. ورغم ذلك كله لم أشبع من تلك الجولة التى أذكر أنها استغرقت أكثر من أربع ساعات ونصف الساعة لتنتهى عند حانوت يبيع الحلى الفضية والحجارة نصف الكريمة صاحبه يدعى فتحى، كما أذكر، أصر بعد أن باعنا ما طاب لنا الهوى أن كل هذا هدية لا يريد أن ندفع له ثمنها.
بصوته الهادئ وأسلوبه البديع فى السرد واستعادته الشيقة لعلاقة العديد من شخصيات الأدب المحفوظى بالأماكن، وهى علاقة يحرص نجيب محفوظ، كما نعرف جميعا، على توضيحها وتحديدها، ولا سيما إذا كان الأمر يتعلق بالقاهرة مكان الأدب المحفوظى الأثير، بذلك كله، وبما هو أكثر منه، بدت الجولة فى القاهرة المحفوظية، برفقة جمال الغيطانى أشبه برحلة سحرية على متن ما هو أكثر فتنة من بساط الريح. بدت نوعا من دخول متسلل إلى عالم يبدو وكأنه طالع من أحلامنا ليعبر بنا لحظات لا تنسى. والمدهش أن جمال الغيطانى وهو يحدد لنا منذ البداية، مستذكرا استيقاظ أمينة، زوجة سى السيد، وسط الليل متفقدة إذا ما كان زوجها قد عاد من سهرته، يخبرنا دون أية احتفالية سنكتشف لاحقا كم أن الأمر كان يستحقها، بأنها خرجت إلى الشرفة لتنظر إلى الدروب المحيطة بها والكاتب يحدد بدوره أن النحاسين من هنا وشارع الصنادقية من هناك إلى آخر ما يعرفه قراء الجزء الأول من الثلاثية، أن الشرفة قد لا تكون سوى مئذنة جامع قايتباى، تاركا إيانا نستنتج ما قد يكون من الضروى استنتاجه!
وحين نصل إلى ركن من زقاق مجاور، يقول الغيطانى ببساطة أن زيطة صانع العاهات كان يعيش هنا، أو أن الدكتور بوشى اعتاد أن يزور ذلك الركن الآخر، أو هناك التقت حميدة أو كان يجب أن تلتقى بعباس الحلو. أو فى هذه الزاوية انطلقت خاطئة «بداية ونهاية» فى رحلة نهايتها مع أخيها. أو فى تلك الدرب، إنما فى العباسية هذه المرة، سار كمال فى جنازة حبيبة طفولته دون أن يعرف أن زوجة أستاذه المتوفية التى يدفنونها الآن ليست سوى تلك الحبيبة! ولعل المكان الذى راح جمال الغيطانى يسهب فى الحديث عنه وكاتب هذه السطور يقف مذهولا وسطه، إنما كان تلك الساحة التى تتوسط بيت محفوظ الفعلى على بعد أمتار من مدرسة خليل آغا معتليا مقهى سوف يستعيره كاتبنا الكبير مرارا وتكرارا فى روايات مثل «خان الخليلى» ثم لاحقا «اللص والكلاب» أو «الطريق» وما زامنهما.
والحقيقة أن ما كان فى الإمكان ملاحظته هو ذلك الشغف الهادئ الذى تتسم به استفاضة جمال الغيطانى فى حديثه عن كل ذلك حديثا يبدو وكأنه يتناول أدبه الخاص ولا سيما إذ يبدو عليه غرق فى التفاصيل سيقول لى الراحل غالى شكرى لاحقا حين حدثته عنه وأنا أبدى دهشة حقيقية تجاه ما فعله الغيطانى يومها دون أن يقوده ذلك إلى قول ولو كلمة واحدة عن أدبه الخاص: «أنت محظوظ يا صديقى ولو أن ما فعله الغيطانى سيكون مرهقا لك لأنه سوف يدفعك بالضرورة إلى إعادة قراءة مجمل روايات محفوظ من جديد وتحت أضواء كاشفة جديدة». والحقيقة أن ذلك كان ما فعلته ما إن عدت إلى بلدى دون أن تفارقنى صورة جمال الغيطانى وهو يسير إلى جانبى فى أزقة المحروسة بخطوات واثقة وعبارات بطيئة طوال تلك الجولة التى أعتقد جازما اليوم أن الغيطانى – رحمه الله – كان مدهشا خلالها حتى حين نحيى حديثه معى حول روايته «الزينى بركات» التى لا تقل فى نظرى أهمية عن روايات محفوظ القاهرية وتدور مثلها فى تلك الجغرافيا العتيقة نفسها، واعدا بالعودة إليها فى مناسبة أخرى.
ولسوف يكون الغيطانى نفسه، وبرفقة يوسف القعيد كالعادة، من سيعرّفنى بمحفوظ لاحقا، أى بعد سنوات، لمناسبة سأحكى عنها فى حلقة مقبلة، كان اللقاء فيها بطلب من معلمنا الكبير نفسه والذى ما إن استقبلنى هاشا باشّا كعادته على «متن» العوامة فرح بوت بعد الجولة الغيطانية بسنوات حتى سألنى ما إذا كان الغيطانى قد اصطحبنى فى «جولته الأثيرة». فلما ابتسمت إيجابا وعلامات الحماس تملأ محيّاى، ضحك محفوظ قائلا وهو ينظر إلى الصديق المشترك ليضيف: إذا، أجبرك على إعادة قراءة رواياتى من جديد؟ لقد فعل هذا بكثر من قبلك وكاد يفعل الأمر معى حتى...
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا