إحساس الأونر
الخميس 4 سبتمبر 2025 - 7:05 م
نظن أن أحاسيسنا تنبع من داخلنا وأنها تعكس تفاعلنا مع ما نمر به في حياتنا اليومية من تقلبات: نجاح، فشل، حب، غيرة، غضب، ضعف، اشتياق و.... كل شئ بالمعنى الحرفي للكلمة. نعم نظن هذا، وهذا هو المفترض لأن مشاعرنا تخصنا، لكن ليس كل المفترض يتحقق، وجزء مما نشعر به يكون في بعض الأحيان مستمدًا من نظرة الآخرين لنا ومن الصورة التي يرسموها لنا في عُرفهم وخيالهم، مع أننا عندما نتشكّل وفق تصوراتهم ننتهي إلى أن نشبههم ولا نشبه أنفسنا.
• • •
شئ ما في مصايف هذا العام جعل سؤال هل أنت أونر owner أم جِست guest؟ يتردد في كل مكان. وأول ما استوقفني في استخدام ثنائية أونر/جِست هو أنه باللغة الإنجليزية بما يعكس التراجع المستمر للغتنا العربية أمام اللغة الإنجليزية. واستوقفني أيضًا استخدام وصف جِست أي ضيف للإشارة إلى كل مَن هو ليس أونر، فالجِست قد يكون زائرًا للأونر يأتي ويذهب ويا بخت مِن زار وخفّف، وقد يكون مستأجرًا لشاليه لكل شهور الصيف مثلًا، لكن هذا ليس مهمًا- المهم هو أن المستأجر مهما طالت إقامته فإنه لا يمتلك في يده العقد الموثَق في الشهر العقاري الذي نطلق عليه العقد الأزرق. حيثما حللتُ في أي مكان في الساحل الشرير والطيب أيضًا يُطرح عليك السؤال التالي: هو حضرتك أونر والا جِست؟ والسبب في ذلك أن هناك شواطئ وحمامات سباحة وخدمات وحفلات غير مسموح بالاستفادة منها إلا للأونرز. ثم هناك ما هو أكثر، فمن الشائع أنه يمكن للأونر أن يستخرج بطاقات أونرز مثله لأفراد عائلته، مع تضييق أو توسيع لنطاق الاستفادة بلقب أونر من قرية سياحية لأخرى، فهناك قرى تقصر توزيع بطاقات الأونرز على الأقارب من الدرجة الأولى وهناك قرى أخرى قد توسعها قليلًا. لكن المدهش هو أن بعض حرّاس الشواطئ يسألون عن الأونر الأصلي الذي تفرّع عنه كل الأونرز الآخرين، وهو سؤال لا معنى له في الحقيقة، لأنه طالما أن الأشخاص الذين يتحقق الحارس من هوياتهم هم أونرز بالفعل فماذا يستفيد بالضبط من معلومة إن الأونر الواقف/الواقفة أمامه هو ابن الأونر الأصلي أو هي زوجته مثلًا؟ أخشى أن تكون الخطوة القادمة مطالبة المصطافين بتقديم تحليل d n a من معمل طبي محترم للتحقق من نسبهم إلى الأونر الأصلي، وشر البليّة ما يُضحك.
• • •
هناك بعد ما هو أكثر، إذ يحدث أن يطلب حرّاس بعض الشواطئ عند مغادرة المصطافين التأكد من أنهم مازالوا أونرز. سبحان الله إذا كان المصطافون قد دخلوا للشاطئ أونرز فمن الطبيعي أن يخرجوا منه أونرز كذلك، ولا داعي لسوء الظن بافتراض أنه تم تبديل الأونرز الحقيقيين بأونرز كده وكده، كما كان يتم تغيير المواليد وتبديلهم في عدد كبير من أفلام الأربعينيات وربما حتى يومنا هذا، وكلنا يذكر المشهد التاريخي لزينب أو الفنانة يسرا وهي تستفسر من عائشة أو الرائعة شادية في فيلم"لا تسألني مَن أنا" قائلة: أنا بنت مين يا دادة؟. أما الأكثر من كل ذلك فهو ما رأيته في أحد الڤيديوهات المنتشرة حيث يشتكي أونر محترم لأحد الشاليهات بالساحل الشرير من أن هناك بعض الخدمات الشاطئية المقصورة على عدد محدد من الأونرز دون سواهم، وأنه مع الأسف ليس من بينهم، رغم أنه دفع لشراء هذا الشاليه اللي وراه واللي قدامه. وهكذا نجد أنفسنا إزاء متوالية من مستويات التمييز التي لا تنتهي: بين الأونر والجِست، وبين الأونر الأصلي والأونر الفرعي، وبين الأونر المميّز والأونر العادي، بحيث لم يعد ينفع حتى شعار "يا أونرز مصر اتحدوا"، ببساطة لأن الأونرز في ما بينهم صاروا طبقات فوق طبقات.
• • •
خطر لي سؤال: هل يشعر الأونر في داخله بأنه أونر أم أنه يتصرف بشكل عادي ولا يأخذ في اعتباره هذه المكانة الخاصة التي يقوم المجتمع بتسكينه فيها؟ يقول المثل المعروف: الزّن ع الودان أقوى من السحر، وبالتالي فلربما أدى هذا التمييز المجتمعي المستمر والمتفاقم بين الأونرز وغير الأونرز إلى نمو الشعور بالتفاخر الاجتماعي وانتهى لتشوهات خطيرة حتى في العلاقات داخل الأسرة الواحدة. لنتخيّل مثلًا أن الأونر لشقة معينة قرر أن يستمتع بإحساس التميّز دون باقي أفراد أسرته، ولنفكر معًا في الأسلوب الذي قد يهتدي إليه للتصرف معهم بما يتناسب مع هذا الإحساس، فماذا يمكن أن نقترح عليه أن يفعله؟ هذه بعض الأفكار المقترحة. يمكن للأونر أن يحدد عددًا معينًا من الساعات لا يحق لأولاده وزوجته أن يتجاوزوه عند التحرك داخل الشقة في ما يشبه الالتزام بمواعيد حظر التجول. ويمكنه أيضًا أن يشترك لنفسه في منصات معينة ليتفرج على المسلسلات والأفلام التي يحبها براحته ويحرمهم من مشاهدتها حفاظًا على المسافة القائمة بينه وبينهم. كذلك فإن الثلاجة مهمة جدًا وتوجد بدائل كثيرة للتحكم في التعامل معها، وهي بدائل تتراوح ما بين منع الجستس (جمع جِست) بتاتًا من فتحها وبين السماح لهم باستخدام أرفف معينة دون غيرها، وفي حالة ما إذا استقر الأونر على البديل الأخير يمكن أن نقترح عليه تخصيص الرفيّن العلويين لنفسه حيث تكون البرودة أكثر وليس مهمًا أبدًا تبريد طعام باقي أفراد الأسرة بشكل مناسب. ولا ننسى الڤراندة ونسيم الڤراندة وڤيو الڤراندة وكوب الشاي ساعة العصاري في الڤراندة… هذه كلها امتيازات يمكن أن يستخدمها الأونر للضغط على الزوجة والأبناء من خلال سياسة الثواب والعقاب، ومن الممكن أن نضيف إلى وسائل الضغط خدمات البواب والمكوجي والسوبر ماركت وكل الخدمات المماثلة، ربما باستثناء خدمات الصيدلية حفاظًا على صلة الرحم!
• • •
رأيت لسنين طويلة لافتة "شقة للإيجار" في مختلَف أحياء القاهرة، وكنا ننتقل كأسرة من شقة لأخرى كلما احتجنا إلى مساحة أوسع أو إطلالة أفضل أو دور أعلى. ولم نشعر في أي وقت من الأوقات بأننا ضيوف على صاحب العمارة، أو أن هناك ما ينبغي أن نستحي منه ونشعر من جرائه بشعور النقص في تعاملنا مع أقاربنا وأصدقائنا ممن يمتلكون شققًا فاخرة وعمارات فخمة وكبيرة، وهذا ببساطة لأننا كنا نثق في أننا نصنع مكانتنا الاجتماعية بأنفسنا، وفي أن مصدر سعادتنا هو وجودنا "حدّ بعضنا"- كما يقول أهلنا في الشام. أما السند القانوني لعلاقتنا بشققنا، وما إذا كان إيجارًا أم تمليكًا فلم يكن يدخل أبدًا قدر علمي في حساباتنا للسعادة.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا