شهد العالم العربى وداع الموسيقار زياد الرحبانى، الذى أمتعنا بكلمات وألحان ومسرحيات نابعة من قلب لبنان، ليعكس للعالم ثقافة ومشاعر وصراعات الشعب اللبنانى. وبعد يومين، شاهد نفس الجمهور - أو ربما لم يعد هذا وذاك جمهورًا واحدًا - انطلاق فيديو كليب أغنية «خطفونى» للفنان عمرو دياب وابنته جنى. وامتازت الأغنية بإيقاع مرح يتناسب مع موسم الصيف، وتصدرت المنصات الغنائية فى غضون ساعات من طرحها، وتصدر الفيديو كليب منصة الـYouTube أيضًا، بأجوائه الصيفية خفيفة الظل، ونفس تركيبة عمرو دياب المألوفة منذ سنوات عديدة: فتيات جميلات يرقصن على شاطئ البحر، وموديل شابة - غالبًا لم تتعد الثلاثين من عمرها - ترقص مع الفنان ذى الـ٦٣ عامًا. وضفنا على التركيبة غناء ابنة «هضبة» الأغنية العربية بلغة عربية ركيكة، تعكس واقع الكثير من أبناء جيلها، المبهورين بالغرب ولغته، غير المتقنين للغتهم الأم.
وتنجح الأغنية وتُذاع فى الحفلات والسيارات والمنصات، ويرقص عمرو ونرقص معه على نغمات متشابهة وكلام سطحى لا يعكس مشاعر نابعة من عمق تجربة، بل كُتِب اللحن والكلام، وصُمِّم الفيديو، بهدف واحد: الوصول لأكبر عدد من الجمهور، لأن ذلك هو الطريق الأمثل لتحقيق أعلى نسبة مشاهدة، ومن ثم إلى النجاح التجارى الواسع. وإن كان الهدف هو الوصول إلى قاعدة جماهيرية عريضة، فلزم استخدام مكونات سهلة الاستساغة للجميع، آمنة، ومُثبت نجاحها مسبقًا. فلا توجد مساحة للمخاطرة أو شخصنة التجربة أو الإبداع الحر فى تلك الموسيقى ذات نكهة الفانيليا الآمنة.
وشتّان الفارق بين أعمال زياد، وأغانى المصيف الخفيفة اللطيفة، التى تستهوى قاعدة جماهيرية واسعة، مثلها مثل الوجبة السريعة السهلة، لكنها ليست بالضرورة المثلى لغذائك - أو غذاء روحك، فى هذا التشبيه. فالأولى نابعة من قلب التجربة الإنسانية الشخصية، ومعاناة شعب وطبقات عديدة، ومن مشاعر وتجارب إنسانية معقدة. أما الثانية، فهى مشاريع غنائية عامة للغاية، تستهوى الكثير، ولا يتفكر فيها أو يتوقف عندها الكثير، كما هو الحال مع كثير من أغانى الـpop التجارية.
وتعريف أغانى الـpop أنها أغانٍ موجهة لجمهور عام، بهدف إمتاعه والوصول لنجاح تجارى واسع. ولا يعنى ذلك أبدًا أن كل أغانى الـpop بنكهة الفانيليا؛ فالكثير من تلك الأغانى تركت أثرًا كبيرًا فى الجمهور، وحملت معانى حقيقية وعميقة، ومن ضمنها كثير من أغانى «الهضبة» خلال مشواره الفنى الطويل والمهم.
ومن الناحية الأخرى، فالـelite art هو عبارة عن الفنون التى تعكس تجربة ومشاعر وآراء الفنان، من دون اعتبار لما إذا كانت ستنال إعجاب المستمع أو الجمهور، لأن هدفها الأساسى هو عكس جوانب ومشاعر وقضايا المجتمع كما هى، من دون تجميل أو اعتبارات تجارية. فبينما يسلى الـpop art الشعوب، فإن الـelite art يحرّكها ويغيّرها.
وبما أن الفن مرآة الشعوب، فالسؤال هنا هو: هل تغيّر الجمهور بتغير الوقت؟ هل جمهور الرحبانى من زمن ولى ومضى، ومضى معه المستمع الذى يقدّر الوجبة الغنائية الدسمة النابعة من قلب ووجدان الفنان، أكثر من الوجبات الصيفية السريعة؟ فزياد الرحبانى نفسه بَسَّط كلمات فيروز، وضلّ عن إرث الرحبانية وثار عليه، ليقدّم أغانى أبسط وأقرب إلى الشعب، ولكن خلال ثورته هذه حافظ على مصداقية وأصالة فنه.
وربما تغيّر الزمن، ومعه تغيّر الجمهور وما يطلبه المستمعون. إلا أن هذا الجمهور نفسه تفاعل مع أغانى فريق كايروكى غير الراقصة، وغير الملائمة للاستهلاك السريع على شواطئ البحر وسط حفل من العارضات صغيرات السن، مثل أغنية «تلك قضية» التى تناولت موقف الدول من القضية الفلسطينية، بشكل يجمع ما بين تبسيط المعانى وعدم المساس بتعقيد وأهمية القضية. وكذلك أغنية «أنا نجم» التى عكست مشاعر إنسانية معقدة وخاصة، ومع ذلك لاقت صدى لدى الكثيرين والكثيرات.
فى وقت ما فى أواخر التسعينيات وأوائل الألفينيات، لم يكن هناك مكان بين المنتجين لأغانى تتناول قضايا سياسية أو اجتماعية، فى خضم زمن ما بعد أفلام المقاولات، التى امتازت بالسرعة فى الإعداد، وسطحية المواضيع، وتناولها لضمان الأرباح المالية. لم تكن آنذاك فرصة لموسيقى أو أغانى مختلفة للتسلل، لأن حواجز دخول الصناعة كانت عالية. ولكن الإنترنت جاء ليغيّر كل ذلك، حين أتاح منصات مجانية لكل فنان لعرض فنه على جمهوره دون حواجز أو اعتبارات إنتاجية تجارية. وُلد بذلك فن جديد، يُعبّر عن طبقات وأجيال واتجاهات لم تعد ترى نفسها فى الساحة الموسيقية، مثل مغنى الراب، والتراب، والمهرجانات، وكايروكى، وغيرهم.
لكن سرعان ما حكم لوغاريتم المنصات، وعادت «ريما لعادتها القديمة»، وأصبح حتى الإنترنت محكومًا بنفس معايير منتجى أفلام المقاولات: العمل الفنى السهل الفانيليا، الذى يُرضى الجميع لتحقيق أعلى مشاهدة وأكبر ربح. وإن كان هذا هو الطريق السهل، فمن المؤكد أنه ليس الطريق الوحيد إلى قلب الجمهور، كما أثبت لنا الكثير من الفنانين.
فالكثير من الفنانين حققوا المعادلة الصعبة بين تقديم فن أصيل، يعكس تجربتهم ومشاعرهم دون اعتبارات أخرى، والوصول إلى قلوب شريحة كبيرة من المجتمع من دون تحابيش وبهارات تجارية النزعة. فمن المؤكد أن المجتمع المصرى ذواق للفن الصادق - إن قُدِّم له.