إعادة الثقة أو ترسيخ التشرذم السوري؟

الأحد 3 أغسطس 2025 - 8:10 م

ذهب الاستقطاب ضمن المجتمع السورى، بعد الأحداث الأخيرة، إلى مستويات غير مسبوقة، وحلّت المخاوف والتجاذبات الحادّة مكان مناخ التفاؤل العام الذى ساد المجتمع إبان سقوط حكم بشار الأسد بسرعةٍ فائقة ودون إراقة ملحوظة للدماء.

دمٌ سوريّ سال بيد سوريين... للمرّة الثالثة. دمٌ زاد من انقسام المجتمع، ودفع إلى اصطفافات ما قبل الدولة؛ الدولة باعتبارها مفهوم وطنٍ واحدٍ موحّد لجميع مواطنيه. وبالنتيجة، ترسّخت مخاوف لدى فئات أوسع من المجتمع من أنّ الدولة، كمؤسّسة، غير قادرة على حماية أمنهم وتوفير سبل معيشتهم. وبرزت فى المقابل اصطفافات تُشيطِن هؤلاء، اصطفافاتٌ هى أيضاً بدافع الخوف... من الفوضى ومن الاقتتال الداخلى، ومن التدخّلات الأجنبيّة التى أصبحت فى منتهى السفور من قِبل إسرائيل نتنياهو.

لا بدّ، قبل كلّ شىء، من استعادة الثقة بالوطن والمواطنة والدولة. وليس ذلك من خلال تصريحات الدول الكبرى والإقليميّة وألاعيب مصالحها. فبعد ثمانية أشهر من تركيز السلطات الجديدة اهتمامها على تطبيع العلاقات مع الخارج، لرفع العقوبات وجلب الدعم للنهوض بالاقتصاد وإعادة الإعمار، ها هو هذا الخارج يعود ويتحدّث عن استمرار العقوبات ورفعها تدريجًا ضمن شروط. ولم يأتِ سوى القليل من الدعم المالى الصريح للنهوض من كارثة أربع عشرة سنةً من الصراع، وأكثر من ثمانين بالمئة من السكّان لا يزالون يرزحون تحت خطّ الفقر.

• • •

ما تمّ الإعلان عنه هو استثمارات، ولكن ليست الإشكاليّة حقًّا فى جلب استثمارات تبحث عن الربح فى بلدٍ فقير. فالاستثمارات ستأتى بشكلٍ تلقائى إذا ما ترسّخت فى سوريا دولة قانون، وتميّز عمل أجهزتها بالشفافيّة. وفى هذا الصدد، ورغم كلّ الجهود التى يبذلها بعض المسئولين فى مؤسسات الدولة، ما يلفت الانتباه هو أن يطلب مشروع القانون الذى أقرّته لجنة المالية فى الكونجرس الأمريكى من صندوق النقد والبنك الدوليين التدقيق فى مصداقيّة عمل أجهزة الدولة ماليًّا وإجرائيًّا. ومن اللافت أيضا أن يصدر تقرير استقصائى لوكالة رويترز حول عدم شفافيّة تعامل السلطة وحدها – دون أجهزة الدولة – مع الاحتكارات التى أسّستها السلطة البائدة وأمراء حربها، وكيف تزامن ذلك مع زيارة الوفد السعوديّ الضخم للإعلان عن مذكرات تفاهم حول استثمارات كبيرة، يحتاج الكثير منها إلى التمحيص فى كيفيّة مراعاتها للحقّ العام وللحقوق الخاصّة.

الإصلاح الإدارى مطلوب بإلحاح ويتطلّب جهدا كبيرا، ولكنّ الشفافيّة ودولة القانون هما العنصران الأساسيّان كى يزول الانطباع السائد حاليًّا – فى الداخل والخارج – بأنّ هناك سلطة فوق الدولة. والعنصر الجوهرى الآخر يتمثّل فى توحيد المؤسسات الموروثة من سنوات الصراع والانقسام الفعلى، سواء المؤسسات العامّة ضمن آليّات الدولة السوريّة، أو المؤسسات الخاصّة ضمن القوانين السوريّة. ومن الطبيعى أن يتمّ تعديل هذه الآليّات والقوانين كى تنضوى فى إطار هذا الشمول.

وفيما يتعلّق بسياق استعادة الثقة بالمواطنة كما بالدولة، يبرز اليوم استحقاقٌ مفصلى، يبدو ظاهريًّا أنّ القوى الدوليّة تدفع إليه لترسيخ الاستقرار وتخفيف المخاوف، ألا وهو دفع السلطات السوريّة وقوى شمال شرق سوريا إلى التفاوض حول إعادة وحدة الدولة السوريّة: وحدة الجيش، ووحدة مؤسسات الدولة، ووحدة المجتمع.

لم يُعطَ هذا الاستحقاق حقّه من الاهتمام اجتماعيًّا، على عكس النداءات المتعدّدة التى وجّهها سياسيّون ومثقّفون لإقامة مؤتمر وطنيّ جامع يؤسّس لنظام دولة تشاركيّة بقاعدةٍ أوسع. هذا، رغم أنّ كليهما واجها هجوماً كبيراً ضمن الاصطفافات القائمة التى تغذّيها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى.

إلاّ أنّ استحقاق توحيد قوّات «قسد» ضمن الجيش، والإدارة الذاتيّة ضمن مؤسسات الدولة، و«مسد» ضمن أيّ برلمان يتمّ العمل على إنشائه اليوم، يطرح قضايا قد تشكّل مخرجاً للمخاوف والاصطفافات القائمة بعد الأحداث الأخيرة، إذا ما تعامل طرفا التفاوض بعقلانيّة وحكمة وروحٍ وطنيّة بعيدة النظر، وإذا ما نشطت فعاليّات المجتمع السورى على طرفى نهر الفرات لإنجاح هذا التفاوض، بعيدا عن الاصطفافات والمخاوف الموروثة أو التى يتمّ استفزازها.

• • •

سوريا بحاجة لشمال شرقها، شعبًا عربيًا وكرديًا، ونفطًا وغازًا وزراعة، وشمال الشرق يحتاج لسوريا شعبا وروح تسامح ومواطنة، وفعاليّات اقتصاديّة واجتماعيّة. بالطبع، كما تحتاج السويداء إلى دمشق ودرعا، والعكس بالعكس. وليس لأى منطقة فى سوريا عناصر «الاستقلال». ولا يستفيد من الشرذمة والانقسام والاصطفاف الحادّ، لا الكرد ولا العرب، ولا الدروز ولا العلويون ولا السنّة. المستفيد الوحيد هو بنيامين نتنياهو ومشروعه.

لكن، ليس سهلا أن يتوصّل التفاوض إلى حلولٍ عقلانيّة ووطنيّة. فكيف يجب أن يتمّ ضمّ قوّات «قسد» إلى الجيش الوطنى؟ فى مناخٍ اليوم يحمل فيه الكثيرون السلاح، وفى حين تنتشر قوى مسلّحة فى مناطق عديدة لم يتمّ ضمّها إلى الجيش السورى الجديد إلاّ بشكلٍ صورى؟ لقد واجهت الدولة السوريّة معضلة مشابهة عند الجلاء من الانتداب وتأسيس الجيش السورى من فصائل طائفيّة ومناطقيّة صنعها المستعمِر. الوضع أصعب اليوم، لأنّ الزخم الوطنى كان قائماً حينها، وأقوى من المخاوف والاصطفافات.

وكيف يتمّ دمج مؤسسات «الإدارة الذاتيّة» ضمن مؤسسات الدولة السوريّة دون التوافق على شكل اللامركزيّة التى يجب إقامتها على كامل الأراضى السوريّة؟ هناك اليوم من يريد إعادة تشييد دولة شديدة المركزيّة فى سوريا، تُعيِّن فيها السلطة محافظين يحتفظون بكلّ القرارات دون حتّى الرجوع إلى المجالس المنتخبة للمحافظة، على شاكلة دولة «الأسد». فهل حَفِظَ هذا النموذج الدولة السوريّة من الهشاشة أمام الاستحقاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة؟ وهناك من يتحدّث أيضا اليوم عن «فدراليّة» كما فى العراق، رغم كلّ دروس التجربة التى رسّخها الاحتلال الأمريكى لهذا البلد. فى هذا المجال أيضا، عرفت سوريا تجربة مماثلة حين قسّم الانتداب سوريا، بينما أجبره السوريّون وفعاليّاتهم على توحيدها فى مناخٍ احترم الخصوصيّات المحليّة. اليوم أيضاً، المعضلة أكثر صعوبةً مع المخاوف والاصطفافات، إلاّ أنّ الدولة المركزيّة القويّة هى التى تصنع لا مركزيّة فعّالة للتنمية... كما فى الصين مثلاً.

وكيف يُمكن التوفيق بين «مسد» (مجلس سوريا الديمقراطى) وبين المشروع القائم اليوم لتسمية مجلس شعب؟ ولعلّ الإشكاليّة أصعب هنا، بحيث لا يُمكن حلّها دون حراك شعبيّ يُطالِب بتغيير آليّة العمل لخلق مجلس تمثيلى، انطلاقا من الظروف القائمة، مثلاً لإتاحة الترشيح الحرّ من خارج اللجان المعيّنة.

• • •

كلّ هذه استحقاقات صعبة. ولكنّ عدم التنطّح لها ولتفاصيلها اليوم سيؤدّى إلى استدامة التشرذم الفعلى الناتج عن سنوات الحرب السوريّة واصطفافات ما بعدها. ولا بدّ من خطواتٍ سريعة تُعطى الأمل بأنّ هذا التفاوض سيصل إلى حلول، ليس فقط بين مناطق السلطة القائمة وشمال الشرق، بل أيضا بين مناطق الاصطفافات المستجدّة.

فلماذا يتمّ الحديث فقط عن قوافل مساعدات من دمشق إلى السويداء، وعن «ممرّ إنسانى» مع الأردن أو «الكيان العبرى»، بدل عودة التجارة «الحرّة» الطبيعيّة مع المحافظة؟ ولماذا لا يُعاد فتح مطار القامشلى للطيران الداخلي، كما كان الأمر فى زمن «النظام البائد»؟ وكذلك عودة مؤسسات الدولة الأساسيّة؟ ولماذا يستمرّ انقطاع الاتصالات فى شمال شرق سوريا؟ هناك توافقات جرت فى الآونة الأخيرة على النفط والغاز أو التعليم... فلماذا لا يتمّ تعميمها بشكلٍ منهجى، ووضع كلّ الأمور الإداريّة والماليّة والخدميّة على طاولة التوافق صراحةً وبشفافيّة أمام المجتمع السوريّ برمّته؟

الخروج من المأزق الفعلى الذى أدّت إليه الأحداث الأخيرة، مسئوليّة تقع على القائمين على الأمور من جميع الأطراف، وأيضا على المجتمع وفعاليّاته. والمسئوليّة تتطلّب شجاعة تتخطّى، بل تكسِر، خطابات التحريض والاصطفافات... شجاعة تعيد الثقة، بدل نشر المخاوف.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة