x قد يعجبك أيضا

مثقفو «الهزيمة الثالثة» والتمسك بحبال الهواء

الخميس 3 يوليه 2025 - 7:45 م

من المؤكد أن الوقت لا يزال اليوم، أبكر من أن يسمح لنا بتقييم أقرب إلى الدقة لما يحدث فى العالم العربى فى أزمتنا هذه، ولا سيما فى التفكير العربى العام خلال العامين الأخيرين، بل ربما خلال العقد ونصف العقد الذى مر منذ بدايات العشرية الثانية من القرن الحادى والعشرين. لكنه ليس مبكرا فى قدرته على تمكيننا من طرح عدد من التساؤلات التى تنطلق من تسمية محددة لما آلت إليه الأمور.

ولعل التسمية الأولى التى تخطر فى بالنا، متغلبة على أية تسميات أخرى هى «الهزيمة الثالثة». فالحال أن التفكير العربى عرف خلال أقل من قرن من الزمن، ودائما من حول فلسطين بالتأكيد، ثلاثة مفاصل لن نرى مبالغة فى اعتبار كل منها هزيمة قد تكون طالت الأنظمة والشعوب العربية، لكنها طالت فى المقام الأول، التفكير العربى ولا نقول الآن العقل العربى ولا الفكر العربى، مادام أن مثل هذا القول قد يحتاج إلى صفحات أوسع وتحليلات لا يتسع لها المجال هنا، لكننا واثقون من أن ثمة عودة بل عودات إليها منا ومن غيرنا.

المهم أن ما نعيشه اليوم هو هزيمة ثالثة بالنظر إلى أن الأولى، والتى سماها قسطنطين زريق مخففا من وقعها فى ذلك الحين، حين ساد التفاؤل على أية حال، «نكبة» فى كتاب مؤسس له عنوانه «معنى النكبة»، أصدره إثر ضياع فلسطين عام ١٩٤٨، وبالنظر إلى أن الثانية وقد سمتها الأنظمة الحاكمة يومها، أى فى العام ١٩٦٧، «نكسة» فانطلى المسمى على «الجماهير العريضة» بما يحمله من وعود مستقبلية، لم تتحقق بالطبع لكنه أنتج فكرا عظيما وأبرز دور المثقف العربى فى ابتداع تحليلات ودروس تجاوزت تأكيدات زريق لتنتج متنا فكريا غاضبا تراوح بين «النقد الذاتى» الذى دعا إليه صادق جلال العظم، وفضح الجرح النرجسى العربى، كما وصفه جورج طرابيشى.

اليوم، ها نحن نعيش الهزيمة الثالثة التى قد يمكننا العودة بتاريخ تفاقمها إلى يوم السابع من أكتوبر، وبصرف النظر عن أى دلائل أخرى، أدت إلى دمار غزة بالتالى إنهاء القضية الفلسطينية - مؤقتا (!) -، وصولا إلى تمكين اليمين الإجرامى الإسرائيلى من التمسك بالسيطرة على الكيان بل حتى من العمل على «استعادة» الضفة الغربية نفسها وكذلك تمكينه من نسف المنجزات الصغيرة والواهية التى كان ياسر عرفات وصحبه قد حققوها لفلسطين كخطوة أولى لم تتبعها كما وعدوا ووعدوا - مرة بفتح الواو الأولى ومرة بضمها - خطوات حقيقية أخرى.

المهم أن الجواب على الهزيمة الأولى كان وعدا من الثقافة العربية، بالتعمق فى دراسة أسبابها وفهم معناها، معترفة بكونها هزيمة، وكان جوابها على الهزيمة الثانية كان فهما بادى العمق لأسبابها الحقيقية، لكنه بقى فهما نخبويا تعمق لدى شريحة من الحداثويين العرب، لكنه لم ينتج تيارات سياسية حقيقية ولا نقاشات عامة، حتى وإن كان قد ضم المغرب والمشرق فى بؤرة إبداعية موحدة، أنتجت فكرا وإبداعات عظيمة لا مجال للتوقف عندها بالتفصيل هنا.

ولكن المجال يتسع لسؤال يتعلق الآن بما يمكننا أن نسميه: الهزيمة الثالثة فى انطلاقة لا بد من الشروع فى خوضها باحثين ليس عن سماتها التى تبدو أوضح من الشمس، ولكن عن كيفية انعكاسها على ما يمكننا أن نسميه اليوم، الأجيال الأجد من «المثقفين العرب».

ولعل السؤال الذى ينبغى طرحه هنا هو: أين هم على أى حال هؤلاء المثقفون؟ سنحاول أن نجيب هنا بشكل أولى مهما حمل جوابنا من مجازفة: إذا كانوا فى الهزيمتين الأولى والثانية قد وجدوا فضاءهم الرحب والمناسب، فى العمل الجامعى والكتب والدوريات والصحف، فإنهم اليوم يجدونه وبكل أسف، فى أماكن أخرى لم تكن متوقعة على الإطلاق: على شاشات التلفزة وفى المواقع الإلكترونية، وغالبا على شكل خبراء يسمون «استراتيجيين» ومحللين يطلب منهم أن يلخصوا إجاباتهم على أسئلة مصيرية فى أقل من عشرين ثانية للجواب الواحد مثلا، أو على شكل معلقين على شاشات الهواتف النقالة يقولون أى شىء وكيفما أتفق عن أى شىء وعن كل شىء.

وحتى ولئن كان من العبث تحليل الرأى العام، نصف المثقف أو ربع المثقف، العربى، من خلال المواقف المعلنة فإن فى الإمكان إيجاز هذه الأخيرة بانتصاروية واهنة تتمسك بحبال الهواء، وهى حبال تتراوح بين إيمان بأن دمار غزة وانبطاح إيران، وقطع العدو الإسرائيلى للأذرع الإيرانية فى أربع أو خمس دول عربية كان الحرس الإيرانى قد هيمن عليها بفخر منذ عقدين أو ثلاثة مُحولًا أبناءها إلى «مرتزقة» يعملون لحسابه، إنما هو إيذان بالنصر وظهور عبر منظومة الملالى للعشرات من الغيفارات (نسبة إلى غيفارا، الذى لا شك أنه يتقلب فى قبره الآن غضبا وحزنا لما إلى إليه نضاله العظيم) والغفاريين (ورثة أبى ذر الغفارى الجدد)، وظهور من يتوخى مناضلو ربع الساعة الأخيرة منه أن يكون عمدة «مسلما» لنيويورك يعيد الحق إلى نصابه، مكررين حكاية توقعاتهم المضحكة فى حينه من الرئيس الأمريكى السابق أوباما قبل سنوات.

تلكم هى حبال الهواء أو بعضها والتى يشكل التمسك بها وبالتأكيد، جزءٌ من مساهمة عربية فى معارك زماننا الكبرى، إنما على الشاشات الصغيرة وعودة إلى غيبية فكرية لعلها أخطر ما نتج عن الهزيمة الثالثة التى تتميز عن سابقتيها بغياب مدهش لأى عقل، ومنطق وعودة كأداء لظهور نكران للجراح النرجسية، ورفض مطلق لأى نقد ذاتى. ناهيك بأن ما يفاقم من ذلك كله إنما هو اختفاء أى استعداد للتحديق فى ما هو ساطع كالشمس وناتج عن اكتفاء عربى عام بدور المتفرج فى معركة، أين منها اليوم «أم المعارك» التى كانت واحدة من الإشارات الممهدة لما يحدث اليوم.

علما بأن ما يحدث اليوم ليس إلا إشارة جديدة إلى الغياب التام للعقل العربى هذه المرة وبكل وضوح، وهو غياب يزداد حدة ومأساوية بين كل هزيمة وأخرى كما سنرى فى استكمال مقبل لهذا الحديث الذى نعترف منذ الآن بأنه غير شيق على الإطلاق.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة