زرتُ مجددًا منطقة سيدى عبد الرحمن، كانت وجهتى «رأس الحكمة» للنزول فى ضيافة صديق من أولاد على، بهدف جمع بيانات عن القبيلة وما طرأ عليها من تطور وحداثة وتغير وتبدُّل، ما فقَدتْه وما تمسَّكتْ به. فى طريقى من الإسكندرية إلى رأس الحكمة قرأت فى الطريق لافتة ضخمة تحمل اسم «هاسيندا بيهHacienda Bay».
انتابتنى دهشة وحيرة، أنا أعرف المكان منذ سنوات طويلة، ولا يوجد هنا أى خليج بحرى، بل على العكس: هنا رأس من اليابس متوغل فى عرض البحر يسمى «رأس سيدى عبدالرحمن». على خرائط الهاتف المحمول حوَّلت الخريطةَ إلى صورة القمر الصناعى فاتَّضحت الفكرة، لقد قامت القرى السياحية بخلق مجموعة من البحيرات الصناعية وفتحات فى البحر (مثلما فعلَت مارينا فى البحر المتوسط، والجونة فى البحر الأحمر)، وأصبحَ المكان فى الترويج السياحي.. Bay أى: «خليج بحرى.
إنها حقًّا مفارقةُ التدخل البشرى فى البيئة الطبيعية التى تقلب الأوضاع وتبدِّل الأسماء وتعكس الهيئة الأولى للمكان. ماذا عن الشطر الثانى من الاسم العجيب «هاسيندا»؟ الكلمة من أصل إسبانى انتشرت فى عصر المسلمين فى الأندلس وتعنى «ضيعة صغيرة ذات حدائق من أفنان وجنان».
لو تَركنا الساحل الشمالى للجغرافيين الكلاسيك من أمثالى لَعِشنا ومتْنا والاسمُ لا يتَغير: «رأس سيدى عبد الرحمن».. أما لغةُ المال السياحى، وأصحاب الخَيال فى بيئة رجال الأعمال، فهؤلاء لهم رؤية أكثر ديناميكية وشَطارة وتَرويجًا وتلميعًا؛ لتقلبَ الرأسَ إلى خليج.
لو زرتَ المكان، أو فتحتَ الآن الخرائط الرقمية على حاسوبك لرأيتَ التفرقة الاقتصادية والعِرقية والجغرافية فى سيدى عبد الرحمن، الطريق الأسفلتى يشطر المنطقة إلى عالمين مختلفين: شمال الطريق عند «هاسيندا بيه» وأخواتها «مراسى»، فى مقابل البدائية البسيطة لقبائل أولاد على فى جنوب الطريق.
إنه تَجاور القبيلة ورأس المال السياحى. تَجاورُ الحداثة والأصالة، السلطة والمالُ والاستيلاء الحَصرى من ناحية، والبداءة والبساطة وحَياة التّين والزيتون والشَّعير من ناحية أخرى.
وصلتُ رأسَ الحكمة، وقابلتُ صديقى وتَناقشنا فى الأسماء والمعلومات والحَداثة والأصالة والقبيلة والأعراف والشَّرائع القديمة والجديدة. عدتُّ للقاهرة، وأخذتُ أفتِّش فى المراجع القديمة، فعثرتُ فى أوراق جغرافى من عَصر الاستعمار (جورج مرى) أصدر كتابه فى عام 1930 على القصة الأصلية عن سيدى عبدالرحمن فازددتُ دهشة وقلت لنفسى: كيف اجتمع فى هذا المكان الفريد تلك الأسطورةُ الدينية وتلك الحداثة الحَصرية؟!

أبو بطيخة
يَنتمى ما نعرفُه عن الأرض وملامحها إلى فئتين من المصادر:
• حقائق ومعلومات أكَّدها العلمُ عبر العصور، من خلال تجارب وفُحوص، ونظريات علمية.
• حكايات شَعبية نَسجها الخيال البَشرى بمرور الزمن، ويتوارث الناس هذه الحكايات وتَكتسب لديهم أفكارًا أسطورية مقدسة إلى أن يأتى العلمُ ويفنِّدها أو يَدحضها، أو يسكت عنها!
خذْ عندك مثلًا نهر النيل الذى نتَعامل معه اليوم ضمنَ خريطة شاملة من مَنابعه إلى مصبِّه، وأصبحنا على درايةٍ بحوض تَصريفه وروافدِه ومنابعِه. لقد عاش هذا النهر فى خَيال المصريين آلافَ السنين باعتباره إلهًا ومعبودًا للرحمة والخير والنَّماء يسمَّى «حعبى» (حابى).
ولو قلت لطالب فى المدرسة اليوم إن هذا النهر إله مقدس من أبناء آلهة السماء المصرية لسَخر منك رغم أن أجداده حتى عهد قريب كانوا أقرب إلى تصديق ذلك، وغنَّى عبدالوهاب «النيل نجاشى»، فى دلالةٍ من اللغة الحبشية على أن النيل «ملك قادر كريم».
فى قصتِنا مع سيدى عبد الرحمن لدينا ــــ أيضًا ــــــ ثنائيةُ الجغرافيا والأسطورة. فالساحل المصرى يمتدُّ من حدودنا مع ليبيا إلى الإسكندرية لمسافة 500 كم. ومن عجب أنَّ هذه المسافة تكاد تكون مُساوية تمامًا لبَقية طول الساحل من الإسكندرية إلى رفَح على حدودنا مع فلسطين فى قطاع غزة.
لكن ثمة فارق جوهرى بين القطاعين، فالقطاع الأول ساحل صخرى لأن المسافة من السلوم إلى الإسكندرية تمرُّ بهضاب وتلال من الحَجر الجيرى التى خلقَت جروفًا كالحوائط والجدران، وبجوارها شواطئ ذاتُ رمال بيضاء ناصعةٌ بلون الثلج. أما الساحل من الإسكندرية إلى رفح فساحلٌ طينى أو رَملي، لا توجَد عليه صخرة واحدة.
تقوم جغرافيةُ الساحل الصخرى فى الـ 500 كم الممتدَّة من السلوم إلى الإسكندرية على ثنائيةٍ جغرافية تُعرف باسْم الرءوس والخِلجان. والرأس هى توغلٌ من اليابس نحو البحر، أى إنَّ الأرض انتصرت على البحر وتوغَّلت فيه وكسبَت منه ميدانًا للمنافسة. والخليج مَعكوس ذلك، فقد انتصرَ البحر على الأرض وسلبَ منها أرضًا. والحقيقة أنه لا رابحَ ولا خاسر فى هذه الثنائية؛ بل تكاملٌ وتَناغم، فنحن لا نَفهم الخليج إلا إذا رأيناه بين رأسين، ولا نَفهم الرأس إلا إذا رأيناه بين خليجين.
لديْنا عدةُ رءوس من الأرض متوغِّلة فى البحر، وبينها خلجان متوغِّلة من البحر نحو اليابس. وإذا بدأنا من السلوم إلى الإسكندرية فسنَجدها فى نسقٍ مُتتابع بين الرءوس والخلجان. ولأنَّ الخريطة دومًا صغيرة المقياس فإنها لا توضِّح سوى ما نَراه من الفضاء. أما إذا نَزلنا على الأرض فسنَجد هذه الرءوس والخلجان أضعافَ ذلك، إذ تتوالى سلسلة من الرءوس والخلجان الصغيرة فيما بين الرءوس والخلجان الكبيرة.
وفيما بين الرءوس الصغيرة خلجان صغيرة تحمل مسمَّى «مرسى» أى: مرفأ يحمى المراكبَ والسفن من الأمواج العنيفة فى البحر المفتوح عند الرءوس الكبيرة. ومن بين الرءوس الصغيرة إلى جوار رأس الضبعة الكبيرة يقع رأسُ سيدى عبدالرحمن. متى جاء سيدى عبد الرحمن هذا؟
إنَّ جغرافية مصر مَعروفة لقدماء المصريين منذ 5000 سنة على الأقل، ومع ذلك فإن «أسلمة» جغرافية مصر، ومَنحها أسماء عربيَّة يُعبر عن نفسه تمامًا فى قصة سيدى عبدالرحمن.
ليس لدينا تاريخٌ لظهور أسطورة سيدى عبد الرحمن، وأقربُ تاريخ لها ربما لا يتَجاوز 250 سنة، وأبعد تاريخ ربما يمتدُّ إلى 500 سنة. وعبد الرحمن تاجرٌ ليبى ربما جاءَ إلى مصر طلبًا للحج قادمًا من برقة فيما وراء خليج السلوم. قطعَ عبد الرحمن رحلةً تتجاوز 400 كم من بَرقة إلى حيث مقامِه الآن على مسافة لا تزيد عن 140 كم إلى الغرب من الإسكندرية. كان رجلًا تقيًّا غنيًّا من قبيلة الهَداهيد فى ليبيا وكان يَحمل معه مالًا وفيرًا خلالَ رحلته فى مصر. وفى المكان الذى يحمل اسمَه الآن غدرَ به بعضُ رفاقه من بنى قَبيلته طمعًا فى ماله. لم يكتفِ هؤلاء بقَتل الرجل؛ بل قطعوا رأسَه ودفنوا هذه الرأسَ بين رمال التين والزيتون وحقول البطيخ.
صارَ الفقراء أغنياء بمال عبد الرحمن، وانتعشَت تجارتهم، وجاءوا مجددًا من ليبيا إلى مصر فى حالِ الوَفرة والثراء ومرّوا على الموقع الذى ارتكبوا فيه جريمتَهم. تقول الأسطورة إنَّ هؤلاء رأوا بطيخةً ضَخمة تسرُّ الناظرين.
داعبَ الخيال عقولَ هؤلاء بأنَّ هذه البطيخة النادرة التى نبتَت فى أرض الإقليم الساحلى البديع ستَسرُّ الباشا فى مصر ويَفرح بها ويُغدق عليهم. لا تُخبرنا الأسطورة التى نقلها الجغرافى الاستعمارى ذى الأصل الأمريكى (جورج ولش مري) عن اسمِ الباشا المصرى. ولقبُ باشا كما نعرف كان مستخدَمًا فى العصر العثمانى، وبالتالى نحن نتحدَّث عن فترة لا تقلُّ عن 4 قرون من تاريخ رواية الأسطورة فى مطلع القرن العشرين.
حملَ الرجال البطيخةَ الرائعة وطلبوا زيارةَ الباشا فى قصره فى القاهرة فقدَّموها له وهم ينتَظرون هديةً ومكافأة، وما إن فَتحوا الرداءَ الذى يضمَّ البطيخة وقدَّموها عند أقدام الباشا حتى استحالت إلى رأس عبد الرحمن الذبيح، وقد فاض الدمُ عنها ولطَّخ ثوبَ الباشا. فى لمح البصر أمرَ الباشا بقَطع رءوسهم جميعًا.
ومنذُ ذلك التاريخ بدأت كراماتُ وأساطير سيدى عبد الرحمن تَنتشر فى المنطقة، وحقَّق سلسلة من الأعاجيب الأسطورية لمن طلبوا منه شفاءً أو شفاعة أو غنى أو مساعدة. وصار اسمُه بين البدو «أبو بطيخة».