x قد يعجبك أيضا

غيبة مي وحضور نجوى

الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 - 6:35 م

بعد غياب طويل، تحل الروائية اللبنانية البارزة نجوى بركات ضيفة على القاهرة. وغدًا الخميس، تشهد قاعة قنصلية بوسط القاهرة تقديم وإطلاق الطبعة المصرية من روايتها الجديدة «غيبة مىّ»، التى صدرت عن مكتبة تنمية بالتعاون مع دار الآداب فى بيروت، وذلك بحضور الناقد الدكتور محمد بدوى.

تمثل الرواية إضافة نوعية إلى رصيد الكاتبة التى تبدو أمام قرّائها كاتبة مُقلّة، لكنها تنحاز إلى الكيف أكثر من الكم، وتنسج أعمالها على مهل، ببراعة من يتأمل الوجود الإنسانى. لذلك، من النادر أن تجد فى أعمالها رواية تُحبط القارئ.

عرّفنى الراحل العزيز إبراهيم أصلان على أعمالها، ولفت نظرى إلى نجاحها فى العثور على لغة مكثفة ومقتصدة، يمكن التعامل معها كوصفة لاكتشاف لغةٍ للاستبطان والاستبصار والكشف. وهى مسألة كانت تشغل أصلان كثيرًا، فهو المولع بالاقتصاد اللغوى ودقة التعبير وكثافته.

جاءت «غيبة مىّ» بعد ست سنوات من نشر روايتها «مستر نون»، التى لم تحظ بالإنصاف الذى يليق بها، وتم إقصاؤها من الجوائز العربية، رغم الحفاوة النقدية التى قوبلت بها. وقد كان ذلك نتيجة تأييد الكاتبة العلنى للحراك اللبنانى، الذى رفع شعار «كلّن يعنى كلّن»، وهو أمر أزعج أحد أعضاء لجان التحكيم، والذى اتهمته الكاتبة صراحةً باستبعاد روايتها التى كنت قد كتبت عنها، مشيدًا بعالمها الفريد.

ورغم الكآبة التى لاحقتنى وأنا أقرأ «غيبة مىّ»، لم أستطع إبعادها عن يدى، وبقيت لعدة أيام أفتح صفحاتها وأغلقها، خوفا من تخطّيها والدخول فى «تروما» الخوف من الوحدة، والقلق، والكوابيس، التى تعكسها الرواية كتمثيل رمزى لما تعيشه بيروت منذ سنوات، والذى بلغ ذروته عند انفجار المرفأ، قبل أن تضرب إسرائيل الضاحية الجنوبية فى يونيو الماضى.

تسكن مىّ، بطلة الرواية، شقة كبيرة فى أحد الأبراج السكنية الراقية، لكنها تعيش وحيدة بعد أن هاجر ولداها إلى كندا. امرأة تجاوزت الثمانين، يرسل لها ولداها ما يغطى تكلفة العيش والعلاج دون إهمال، ولكن أيضًا دون عاطفة تُلون أيامها المعطوبة.

لا تتعامل مىّ إلا مع يوسف، حارس البناية المكلف بتلبية طلبات السكان، وهو سورى يؤدى عمله بأقصى درجات الالتزام. وذات ليلة، تخبره بأنها تشك فى وجود شخص اقتحم الشقة لتهديدها، إلى أن يكتشف أن قطة بائسة غافلته ودخلت شقة السيدة.

لا تنجح مى ومعها يوسف فى إبعاد القطة، وبعد عدة محاولات، لم يعد أمامها سوى الاستسلام التام، لتستقر الضيفة الجديدة فى زاوية داخل البلكون.

اكتفت مىّ بتكليف يوسف بمهمة جديدة: إطعام القطة، وشراء ما يلزمها، ومتابعة حالتها الصحية لدى طبيب بيطري. وقررت ألا تتعامل معها مباشرة، لكن وجودها فى البيت غيّر مزاجها، ثم بدأت تألفها من بعيد.

تخلو الرواية من جميع أشكال الصراع المعتادة بين البشر، لأن مىّ عاشت حياة زوجية هادئة، وأنجبت توءما يلبى طلباتها المالية بامتنان، ومن دون تذمّر. وبالتالى، يصعب أن يكون صراعها مع القطة هو محور الرواية. وهنا حرفية الروائية وخبرتها فى مواجهة هذا المأزق حيث اهتدت إلى تلك العلاقة بين قطة لا تكف عن المواء، وسيدة اعتادت الصمت وألفته.

استثمرت نجوى بركات كل طاقاتها فى معالجة المسافة بين كائنين على طرفى نقيض لكنهما صارا قرينين، وأوجدت مساحة من الحوار بينهما، صالحة للكشف عن الألم، وتمكين القارئ من الإنصات إلى الذات المهزومة، وهى فى مباراة مفتوحة مع الزمن.

فالشيخوخة التى تعيشها مىّ ليست سوى دورة من دورات مواجهة الذاكرة، فى ذروة الخوف من فقدانها لذلك تبدأ لعبة استدعاء ماضيها فى الجزء الثانى للرد على قسوة حاضرها.

عبر المقارنة بين حالة ميّ فى الجزء الأول، وحالتها فى الجزء الثانى من الرواية، يمكن الاستدلال على عالمين متناقضين عاشتهما البطلة: الأول هو عالم الشيخوخة، الصمت، الانسحاب، ومراقبة الزوال، ويبدو وكأنه انتقام مؤجّل من العالم الفريد الذى يظهر فى الجزء الثانى؛ عالم يبدو ملائمًا لصحوة الجسد، والمغامرة، والإبداع، وشجاعة المواجهة مع الذات خلال سنوات الشباب، حيث أبدعت ميّ فى الكتابة، وأدت دور البطولة فى مسرحية «الصوت البشرى» لـ جان كوكتو.

يصل القارئ إلى جذور الندبة التى ظلت تلاحق مىّ وأدّت إلى غيابها، الذى بدا وكأنه اختيار. فقد أيقظت علاقتها مع القطة أمومتها الناقصة، وأجبرتها على النظر فى وجودها كعبء، وحياتها كمهمّة قاسية.

وهو نفس ما شعر به بطل (مستر نون) الذى راهن أيضا على العزلة والاختباء.

تستسلم مىّ، وتنهى حياتها وهى تحتضن جثة القطة الميتة، لتسترد أمومتها الغائبة.

لا تتورط الرواية فى ألعاب ذهنية، ولا تأخذ القارئ إلى مقاربات أو مقارنات جافة. فمادتها الخام من ركام الذاكرة والهشاشة، وهى قوامها الوحيد. أما الوحشة، فهى لعبتها، والأسى هو إطارها.

لذلك، كان من المقبول تمامًا أن تصل مىّ إلى أقصى لحظات الانفعال، وهى تنظر إلى التشظى الناتج عن انفجار المرفأ، وتُستدعى إلى المشهد الخسارات المتتالية، فى أكثر من مكان، وتتقاطع أمامها مشاهد القتل والإبادة.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة