السياسة بدلا من العنف

الأحد 1 سبتمبر 2024 - 7:00 م

بعد رحيل الرئيس سليم الحصّ فى لبنان، رحل رجل مصرى كبير بحجم الأوطان، هو الوزير القدير نبيل العربى، صاحب المناقب الكثيرة، مصريا وعربيا. كنت قد عايشت شخصيا سعيه الحثيث لمحاولة إيقاف الصراع فى سوريا وتجنب تحوله إلى حرب أهلية. ووفاء لذكراه أرى أنه ينبغى التذكير بالأحداث والمواقف التى عرفته فيها.
فى أكتوبر 2011، كنتُ فى زيارة لمصر لحضور فعاليّة مع الأمم المتحدة. وكنت متخوّفا من تفاقم الصراع فى سوريا وانتشار العنف، عنف السلطة وعنف تنظيمات مسلحة عرفتُ إبّان ندوة حضرتها فى يونيو أنّها ذاهبة لأبعد بكثير من «ثورة سلمية» للحرية والكرامة. وكانت «المعارضة السياسية» قد انقسمت حينها بشكل حادّ بين ما سمّى معارضة داخلية، أى خاصة «هيئة التنسيق الوطنية»، وبين ما سمى المعارضة الخارجية، أى «المجلس الوطنى»، الذى نادى «بإسقاط النظام بكلّ رموزه وأركانه» وبالتدخّل الخارجى على غرار ما طالب به «المجلس الانتقالى» فى ليبيا.
كان نبيل العربى أمينا عاما للجامعة العربية حينها وصديقا مقرّبا من عمّى، الذى شاركنى المخاوف وأخذ لى موعدا معه. استقبلنى وزميل فى «هيئة التنسيق» وعند اللقاء بدا أنه يحس بنفس الهواجس. بعد الغوص فى التفاصيل، سألنا: «ما الذى يُمكن فعله؟» فخرجت فكرة المراقبين العرب، دون أن تكون مهمتهم حقا مراقبة من يطلق النار، بل أساسا التواجد فى المكان لمنع ازدياد العنف. وفى مساء اليوم نفسه، فوجئنا أنّ مجلس الجامعة العربيّة أقرّ الفكرة.
وما زلت أذكر جيّدا كيف وثّقَت وسائل الإعلام تمسّك المحتجّين فى بلدات عديدة ببقاء المراقبين فى المكان وكيف ركض يوما جندى سورى إلى نافذة إحدى حافلات المراقبين وهو يصرخ: «أنقذونا!». وكما هو معلوم تمّ تخريب مهمة المراقبين العرب عبر جرّهم إلى وسائل الإعلام التى كانت أصلا تُحرّض على تفاقم العنف. كما تمّ بعدها إفشال مهمة المراقبين الدوليين.
خلال هذا كله استمر التواصل مع الأستاذ العربى. وباختصار كان واعيا لمسار التخريب الممنهج لمهمة المراقبين. وتم التوافق على أن ما يُمكن أن يكسر هذا المسار هو محاولة توحيد المعارضة السورية ووضع أسس للتفاوض مع السلطة القائمة فى سوريا. السياسة بدلا من العنف.
وفعلا قمنا بدعوة ممثلين عن كافة أطياف المعارضة للقاء فى القاهرة يتبعه لقاء مع الجامعة العربية للمرة الأولى. ورغم اتفاق جرى فى الدوحة فى أغسطس 2011 على توحيد الجهود (لم أحضره شخصيا)، لم يقبل سوى عضو بارز واحد فى «المجلس الوطنى» المشاركة، ثم تخوّف فى اللحظة الأخيرة عن الحضور. إلا أن الأسوأ هو أن «المعارضة الداخلية» رفضت أن يكون وفدها للجامعة مشتركا. ذهب وفد «هيئة التنسيق» وحده وتعرّض للضرب على مدخل الجامعة، رغم تحذير معاونى الأمين العام من ذلك. وبالنتيجة تأجل الموعد مع الأمين العام ليصبح موعدين، الأول مع «هيئة التنسيق» والآخر مع من استنكروا الانقسام. ثم جاء لاحقا «المجلس الوطنى» وحده للقاء الجامعة مطالبا بأخذ شرعيّة تمثيل سوريا سياسيا!. ما لم يقبله نبيل العربى، وما انتهى بعد الضغوط بتجميد العضوية فقط.
• • •
تطورت الأمور لاحقا، وسمت الأمم المتحدة مبعوثا لها عن سوريا هو السيد كوفى عنان الذى أطلق برنامج النقاط الستة لحل الصراع الناشئ. وتابع هو والجامعة العربية كيف قُمنا، مع ميشيل كيلو وآخرين، بإنشاء «المنبر الديموقراطى السورى» بصيغة مفتوحة لرأب صدع المعارضة وضمّ ممثّلى الشباب الناشطين فى الداخل، حيث أقيم مؤتمر كبير فى القاهرة فى إبريل 2012 حضرته محطات الإعلام العربية الكبرى وتقصّدت التعتيم عليه.
لكن جاءنا بعد ذلك مبعوث نبيل العربى وأعلمنا أن الدول الفاعلة فَرَضت على كافة أطراف المعارضة القبول بمبادرة كوفى عنان والعمل على برنامج مشترك للتفاوض وأن علينا أن نقوم بـ«صلة الوصل» بينها. هكذا ذهب وفدٌ من المنبر إلى اسطنبول لحضور لقاء مع «المجلس الوطنى» للتفاوض على أعضاء لجنة تحضيريّة لمؤتمر المعارضة. وكذلك جرى التفاوض مع «هيئة التنسيق» وغيرها.
وفعلا اجتمعت هذه اللجنة التحضيرية فى القاهرة برعاية الجامعة العربية على مدى أكثر من عشرين يوما. وكان التفاوض شاقا، خاصة مع تواجد ممثلى دول و«مراكز أبحاث» فى الفندق جعلوا الوصول إلى توافقات بين سوريين صعبا للغاية. لكن الجهد أدى فى النهاية إلى إنتاج وثيقة «عهد وطنى لسوريا» ما زالت لها أهميتها إلى اليوم، وكذلك وثيقة تصوّر لمرحلة انتقالية. وتم بجهد كبير التوافق على أسماء من يحضر مؤتمرا واسعا لكل أطياف المعارضة لإقرار هذه الوثائق التفاوضية، ضمن خطّة كوفى عنان التى تضمّنت أيضا لقاء للدول المؤثرة فى الصراع السورى أنتَج فى 30 يونيو عام 2012 ما سمّى حينها وثيقة «جنيف 1».
بعدها بأيّام بداية يوليو، انعقد فعلا مؤتمر المعارضة فى القاهرة برعاية الجامعة العربية. وجرت مفاوضات لم أشارك شخصيا فيها بين «رموز المعارضة»، أدّت إلى تراجع تحت الضغوط عن أمور مهمة فى وثيقة العهد الوطنى، مثل حذف شعار «الدين لله والوطن للجميع»، المؤسس تاريخيا لسوريا، وإخضاع المطالبة بالمساواة التامة بين المرأة والرجل للأعراف والتقاليد، وغير ذلك. لكن همى حينها اتجه نحو رأب الصدع بين الأحزاب الكردية السورية، وبينها وبين أطياف المعارضة الأخرى.
لقد حضر سفراء أجانب المؤتمر «كمراقبين»، لكن بعضهم أحضروا برفقتهم سوريين لم يكونوا ضمن التوافقات الصعبة. جال هؤلاء ضمن الاجتماعات يدفعون هذه الفكرة أو تلك. ولكنّ الأقسى كان بينهم اثنان افتعلا إشكالا عربيا كرديا أثناء الاجتماع الكبير النهائى جعل الأستاذ نبيل العربى يدخل إليه غاضبا وينتزع الوثيقتين المعدّلتين ثم يخرج بهما على أنهما تمثلان توافق المعارضة المنشود.
• • •
كانت تلك آخر لحظات محاولة الخروج من الصراع السورى بتفاوض سياسى. تطورت الأوضاع بعدها إلى حرب أهلية، خاصة بعد اغتيال «خليّة الأزمة» فى سوريا التى جرت معها بدايات تفاوض، ومع دخول فصائل مسلحة مجهزة جيدا «لتحرير» الشمال السورى. بالتوازى فقد كوفى عنان الأمل فى حلّ تفاوضى وتخلى عن منصبه فى أغسطس 2012 بعد محاولة إصدار قرار لمجلس الأمن تحت الفصل السابع، تبعه الأخضر الإبراهيمى الذى فهمَ أن الصراع فى سوريا أضحى صراعا بالوكالة بين دول.
مضى على كل هذا أكثر من عشر سنوات وأصبح تاريخا. تاريخ يحمل شعورا بالألم مصدره أنه كان بالإمكان تجنب الدمار والتقسيم الذى حصل فى سوريا والتهجير والإفقار الذى جرى لشعبها. هذا مهما كانت النظرة إلى تصرفات السلطة والمعارضة السياسية و«الثائرين» على الأرض والمتخوفين من «ثورتهم» والقوى الخارجية.
فى سياق ذلك التاريخ، لا بد من الإشادة بمواقف الأستاذ نبيل العربى والدور الذى لعبه. إذ إنه لم يقبل رغم كل الضغوط العربية والدولية أن تشرعِن الجامعة العربية تدخلا أجنبيا فى سوريا، كما فعلت بالنسبة لليبيا، ولا أن يُنزَع عن سوريا شرعيتها كدولة مؤسسة للجامعة، وحاول جاهدا أن يعمل على مسار تفاوضى رغم معرفته الدقيقة بمنطق جميع الأطراف وتصرفاتها؛ الأطراف السورية والأطراف الخارجية. نبيل العربى كان يُدرك كمصرى أن سلامة سوريا مسألة رئيسية لمصر والعرب. رحمة الله عليه.

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2024 - جميع الحقوق محفوظة