صلاح الذي لا يطربهم! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صلاح الذي لا يطربهم!

نشر فى : السبت 30 ديسمبر 2023 - 7:55 م | آخر تحديث : السبت 30 ديسمبر 2023 - 7:55 م
منذ أن أصبحت كرة القدم الرياضة الشعبية الأولى فى معظم دول العالم، وخاصة بعد حملات التسويق والإعلان والرعاية بمبالغ أسطورية فى العقدين الأخيرين من الزمان، ومع عمليات الاستئثار الحصرى ببث المباريات والبطولات الهامة، فقد أصبحت السياسة ــ فضلا عن الاقتصاد ــ جزءا لا يتجزأ عن صناعة كرة القدم العالمية! فأصبحت عطاءات البث الفضائى، وقرارات إسناد تنظيم البطولات الكبرى لدول العالم تتم وفقا لمعايير سياسية واقتصادية تعكس أهمية الدول وأنظمتها السياسية، وتعبر عن شبكات علاقاتها الدولية وثقلها الدولى والإقليمى، وفى القلب من كل ذلك تأتى الرسائل والقيم السياسية المراد التعبير عنها أو إعطاؤها الأولوية عن غيرها من القيم والمبادئ السياسية الأخرى!
ولأن السياسة لا تعرف العدل ولا تعرف الرحمة، ولا تعرف المساواة، فإن منظومة القيم الاجتماعية والسياسية التى يعبر عنها الاتحاد الدولى لكرة القدم (الفيفا) وإمبراطوريته مترامية الأطراف لا تعترف هى الأخرى سوى بالقيم التى تعبر عن الأقوياء والمنتصرين لا عن عامة البشر، مهما ادعت غير ذلك! وفى حين أن الفيفا تدعى دائما أنه لا خلط للسياسة بالرياضة، لكنها تقوم بالتعاون مع اتحاداتها القارية وخاصة الغربية منها بهذا الخلط طالما أنه يتفق مع قيمها ومعاييرها!
فى الماضى عندما كشف اللاعب محمد أبو تريكة عن قميصه فى إحدى المباريات الهامة ليعبر عن كلمات قليلة تتعاطف مع غزة لا مع منظمة ولا حزب بعينه، تم معاقبته تحت دعوى أنه اتخذ موقفا سياسيا رغم أن ذلك لم يكن صحيحا! والآن، حيث تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة، تعرض عدد كبير من اللاعبين فى العديد من الدوريات الأوروبية لعقوبات متنوعة وصلت بعضها لإنهاء التعاقد والاستغناء عن اللاعب لمجرد أن بعضهم عبر عن دعمه للقضية الفلسطينية أو للمدنيات والمدنيين الأبرياء الذين يقتلون يوميا فى غزة! وفى المقابل، فإن التضامن مع حقوق المثليين والمثليات، أو مع الشعب الأوكرانى لا يتم فقط التسامح معه فى ملاعب كرة القدم، ولكن فى الكثير من الأحيان يتم فرضه على اللاعبين والفرق والمنتخبات ويتعرض من يخالف أو يرفض التضامن مع هذه القضايا لعقوبات شديدة واستهجان عريض!
• • •
فى ظل هذه الأوضاع غير العادلة والتى ــ كالعادة ــ تعبر عن اختلال منظومة قيم الفيفا وشبكاتها الترفيهية، فمن الطبيعى أن يتم تسليط الضوء على اللاعب المصرى العالمى محمد صلاح، ليس فقط باعتباره لاعبا مهما فى الدورى الأقوى عالميا، ولكن باعتباره أيضا أحد أهم عشرة لاعبين فى العالم فى السنوات الثمانى الماضية، حيث وصل لمكانة لم يسبقها إليه أى لاعب آخر فى مصر أو العالم العربى!
فى قضايا كثيرة انتظر جمهور صلاح فى العالم العربى وفى مصر مواقف معينة من اللاعب وخصوصا بشأن القضية الفلسطينية، ورغم أن اللاعب لم يتوقف فى أى مرة عن إعلان دعمه الصريح لفلسطين وقضيتها، إلا أن حملات منظمة أصبحت تمارس بشكل هيستيرى للتأثير على صورة اللاعب واغتياله معنويا، تحت دعوى ظالمة تقول صراحة إنه متحيز للغرب ولا يعبر عن القيم العربية أو الإسلامية!
ليست المرة الأولى التى يتعرض فيها اللاعب لمثل هذه الحملات، فتقريبا كل عام ومع حلول أعياد الميلاد، يتم توجيه حملات شديدة العنصرية ضد اللاعب، تحت دعوى أنه لا يحتفى بالأعياد الإسلامية ويكتفى بالاحتفاء بنظيرتها المسيحية! كما تعرض اللاعب سابقا لحملات مسعورة فى ضربات عسكرية إسرائيلية سابقة على قطاع غزة، ورغم أن اللاعب لا يتوقف أبدا عن إعلان مواقفه الداعمة، إلا أن مثل هذه الحملات الظالمة تواصل عملها ومزايداتها بلا هوادة!
• • •
هذه المرة ومع بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تعرض اللاعب لحملات مماثلة، تحت دعوى عدم اتخاذ موقف، وعندما اتخذ اللاعب موقفا واضحا وبكلمات لا تحتمل أى لبس، تم المزايدة عليه بأنه «ليته ما تكلم» تحت دعوى أن كلمات تعاطفه لم تكن كافية للتعبير عن مواقفهم! لكن لم يعد الأمر محتملا حينما قام أخيرا الموقع الرسمى لنادى ليفربول ومنصاته على مواقع التواصل الاجتماعى بمشاركة بعض الصور التى يظهر فيها صلاح ويقوم بالترفيه عن أطفال من مرضى السرطان فى بريطانيا، فقامت حملة شعواء أخرى تتهم اللاعب بعدم التعاطف مع أطفال فلسطين والتعاطف مع أطفال الغرب، وللأسف شارك فى هذه الحملة الكثير ممن نظن أنهم عقلاء، لكن للأسف تختلط الأمور على البعض ويقعون ضحية لحملات منظمة للنيل من اللاعب لمزيج من الأهداف السياسية والأيدولوجية التى لم يعد من المقبول أن تخفى على أحد!
ورغم أن صلاح يشارك فى هذه الزيارات الإنسانية كل عام ويضرب دائما المثال الجيد بالانفتاح على الآخر ومشاركة أحزانه وتفهم آلامه، إلا أن هذا لا يرضى أصحاب هذه الحملات، وكأن الأطفال من مرضى السرطان فى الغرب ليسوا أطفالا وليسوا مرضى لمجرد أنهم ليسوا «منا» ولا يشبهون أطفالنا، فيتم اعتبار التعاطف معهم جريمة تستدعى العقاب ويتم استدعاء أطفال فلسطين فى غير سياق للمزايدات الرخيصة ليس إلا!
• • •
الحقيقة أن صلاح فى النهاية لاعب كرة، فهو ليس زعيما سياسيا ولا مناضلا ولا ناشطا، ولا أظن أنه يوما ما قد طرح نفسه فى غير ثياب الرياضى المجتهد المثابر المتألق عالميا، ومن ثم فليس من المنتظر منه أن يقود حملات إعلامية أو سياسية لصالح هذه القضية أو تلك، كما أنه ليس من المعقول أن نحمله خيبة أملنا أو قلة حيلتنا بخصوص بعض القضايا العامة لأننا ببساطة لا نقدر على غيره!
ورغم ذلك، فصلاح كان حاضرا فى القضية الفلسطينية بقوة، لكن مشكلة صلاح مع أصحاب هذه الحملات الشعواء ليست فى الحضور، ولكن فى طريقة الحضور، وطريقة العرض ولغته، فهؤلاء ولأهداف سياسية وأيديولوجية تعتمد على رؤية قاصرة شديدة البؤس للعالم، يريدون أن يروا صلاح صورة منهم، نموذجا للنعرات الكاذبة والأبواق الفاشلة التى تردد الكلام الذى يرضيهم بغض النظر عن صحة الكلام من عدمه، أو حتى عن مدى تأثير الكلام على الواقع وتغيره! لا يريدون صلاح أن يقوم بالتعزية فى ملكة بريطانيا، ولا أن يبدى التعاطف مع الأطفال والمرضى، ولا أن يحتفل بأعياد الميلاد، يريدونه نسخة منهم، نسخة من الإنسان البائس الذى يعود إلى العصور الوسطى حيث القبليات، والتحزبات الدينية، والتطرف الفكرى والسلوكى!
هؤلاء يريدون صلاح صورة بائسة من رؤيتهم الأحادية للعالم، من عنصريتهم البغيضة تجاه غير من يدينون بالإسلام، يرفضون أن يروا فيه النموذج الذكى للعربى المنفتح الذى يفهم تعقيدات الحياة ويتحدث باللغة التى يفهمها الآخر، لا اللغة التى يريد هؤلاء أن يرددها حتى يرضى أهدافهم القاصرة الفقيرة! صلاح يختار التوقيت المناسب للحديث، ويراعى طريقة الخطاب الذى يفهمه الغرب، ويفهم كيف يتعامل مع تعقيدات وتناقضات الفيفا وغيره من الاتحادات الأوروبية، ويعتمد على بوصلة إنسانية لا بوصلة دينية أو أيديولوجية، وهو بالمناسبة ما يكسبه الكثير من المصداقية فى الغرب ويجعله مؤثرا بكلماته المختصرة أضعاف تأثير أبواق هؤلاء التى لا تخاطب سوى الذات ولا تنتصر سوى للنفس، انتصارات زائفة، لكنها ترضى أنفسهم المريضة!
أحمد عبدربه مدير برنامج التعاون الدبلوماسي الأمريكي الياباني، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.