بالنسبة للكلب هى مجرد لعبة سيكافئ عليها إذا ما أجاد وأحرز الهدف، أما بالنسبة لنا فهو غضب من الأرض يجعلنا نرى العالم يرحل، حاملا معه غرقى أكثر من ما يحمل مبحرين. وظيفة كلب الإنقاذ الذى راح يلف ويدور وسط الأنقاض هى أن يبحث عن النفس الضائع.. أحيانا يبحث فى أعماق البحر أو فى أعالى قمم الجبال. وحده قد يسمع نداءات الاستغاثة، فقدرة الكلب على التقاط الذبذبات والموجات فوق الصوتية أكبر بكثير من إمكانيات البشر، إذ يستطيع أن يغطى مسافة تزيد على 25 مترا، بالإضافة إلى حاسة الشم القوية لديه، فالكلب يملك ما بين 125 و300 مليون خلية شم بحسب السلالة التى ينتمى إليها، فى حين يقدر عدد خلايا الشم عند الإنسان بخمسة ملايين خلية موجودة فى الأنف.
وقف الكلب عاجزا أمام مشهد رجل يئن بعد أن فقد كل شىء بسبب العاصفة، لم يعد يملك سوى أسنانه المنخورة. هبت الريح فتشبث بحجر شاحب. رحل حوله من رحل.. جرفهم التيار. طيور تودع أجنحتها السماء. طفلة مقطوعة الرأس واليدين. رجل سقط على الأرض عاريا. والكلب يفتش عن ما تبقى من كل هؤلاء، أشلاء، مفقودون، جثث تؤكد أن أصحابها ذهبوا بغير رجعة. المشاعر تختلط حين ينبح الكلب فى إشارة لمدربه أنه وجد شخصا ما، هل هو حى أم ميت؟ فى بعض الحالات قد يرافق الإعلان عن ظهور جثة إحساسا بالارتياح، لأن الأهل تعبوا من حالة الترقب والانتظار والآمال الكاذبة، وأحيانا تكون الفجيعة أكبر من القدرة على التحمل. الكلب لا علاقة له بكل هذه التفاصيل، لا يعرف المتوفى وكيف كان رجلا يحب الورود والكلمات والنجوم والسجائر.
• • •
فى بعض المواقع المنكوبة، طلب الناس أن يلمسوا كلب الإنقاذ، أن يربتوا على رأسه بعد أن أخرج أحد ذويهم من تحت الركام، حتى لو لم يكن على قيد الحياة. وهو ما حدث فى المكسيك مثلا حين اندفع السكان نحو الكلاب التى شاركت فى إخراج ثمانى جثث من تحت الأنقاض بعد خمسة أيام من البحث وأغرقوها بالحلوى تحية لها وعرفانا بالجميل. والكلاب بالطبع سعدت بنجاحها فى اللعبة والحصول على الجائزة الكبرى، وهو المبدأ المعتمد من قبل المدرب أيضا لتشجيعها على الاستمرار فى تقفى الأثر حتى حين لا تجد شيئا، يوهمها أنها أصابت هدفا، إذ يجب إعطاؤها انطباعا أنها أحسنت عملا لتحفيزها على المزيد من البحث.
كان الزلزال الذى أصاب مدينة مكسيكو عام 1985 وأسفر عن حوالى عشرة آلاف قتيل نقطة فارقة بالنسبة لاستخدام الكلاب فى الإنقاذ عقب الكوارث الطبيعية، من وقتها انتشر تدريب الكلاب بشكل أوسع حول العالم. صارت هناك العديد من الجهات المتخصصة فى عمليات التدريب التى تستغرق ما بين سنة وسنتين لكى يكون الكلب والمشرف عليه جاهزين للنزول إلى الميدان. التمرينات تقوم على تتبع رائحة البشر، على الإنصات للأنفاس، على غريزة الصيد لدى هذه الكائنات الذكية وقدرتها على التعلم والاستجابة للإشارات والأوامر. ومنذ العام 2004، كان التركيز كبيرا على التمييز بين رائحة الجثث البشرية والحيوانات، وأجريت دراسات معمقة بهذا الصدد أثبتت أن جثث بنى آدم يصدر عنها مجموعة من الغازات تختلف عن سواه من المخلوقات، ويعد الأقرب إليه هو الخنزير، لذا يتم استخدامه خلال فترة تدريب الكلاب للعثور على أجسام بشرية. وأحيانا ينجح الكلب فى الوصول إليها حتى بعد مرور سنوات وسنوات على الموت أو القتل، طالما هناك أثر لرائحة اللحم أو الدم.
• • •
ظهر الكلب المرقط فى الصور بين نساء متلفعات بملاءات سوداء، حمل فروه هو الآخر اللونين الأسود والأبيض فصار جزءا لا يتجزأ من المشهد. بدا وكأنه هجين ناتج عن تزاوج نوعين مختلفين، ربما خليط من السبرنجر سبانييل الإنجليزى ومن الكلب الدنماركى الضخم الذى يُطلق عليه أيضا الدرواس الألمانى. النوعان اشتهرا منذ القدم ببراعتهما فى الصيد والذكاء، رغم كون الأول أكثر حيوية ورشاقة وطاعة من الثانى المعروف بالهدوء ورباطة الجأش والعناد. وربما هو نتاج خليط آخر لا أستطيع تمييزه، لكن له حضور لا يمكن تجاهله. راح يتلمس طريقه وسط رائحة الموت التى عمت أرجاء درنة. لا يحيد عن هدفه، لا يلهيه مزيج الأصوات والروائح، لا يعنيه الزحام والجوع وهول الموقف. المدينة تحولت إلى أرض قاحلة تفوح منها رائحة الموت. يوزع الجنود الكمامات على الناس كى لا يصيبهم الغثيان، أما هو فينبش حيثما يأمره رفيقه ورئيسه فى العمل، فهما اثنان فى مهمة رسمية اعتادا المصائب والزلازل والفيضانات والتضاريس الوعرة والقصف والجثث التى يتحول لونها وشكلها بمرور الأيام.
هل ذهب معه الكلب قبلها بفترة وجيزة إلى المغرب حين عمت رائحة الموت جبال أطلس تحت أشجار الجوز؟ هل اصطحبه أيضا إلى تركيا وسوريا فى أعقاب الزلزال المدمر الذى أصابهما الشتاء الماضى؟ سمع الكلب حكايات ونحيب بما يساوى عمره كله. تحول إلى شاهد على عصر كثرت فيه المآسى، وهو يعرف كيف يحفظ أسرار بنى البشر.