بجم - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بجم

نشر فى : الجمعة 29 ديسمبر 2023 - 6:50 م | آخر تحديث : الجمعة 29 ديسمبر 2023 - 6:50 م

عجَزَ الولدُ عن إجابةِ السؤال، وازدادت عيناه اتساعًا دون أن ينطقَ؛ رغم ما بذل المُعلمُ من جَهد لمساعدتِه، ورغم مُحاولات زملائه المَفضوحةِ تلقينه كلمةً أو اثنتين تحفظ ماءَ وَجهِه. ظلَّ على حاله لدقائق إلى أن بات الأملُ في استجابته مفقودًا، ثم انصبَّ على رأسِه سيلٌ من التوبيخ، وتطايرت الكلماتُ تستَهجِنُ بلادتَه، وتصفه بأنه بَجَم.
• • •
يأتي الفعل بَجَمَ في معاجمِ اللغة العربية بمعنى سَكَت، الفاعلُ بَجَم والمصدر هو البُجوم. نستخدم الكلمة في أحاديثنا العادية كثيرًا فهي تجمَع ما تفرَّق من أوصاف؛ منها الصَّمت والتحديق والفزع المَصحوب بانعدام الحَركة، والعَجز عن التجاوُب مع الحَدَث، ولإن قال واحدٌ للآخر يا بَجَم؛ قصد غالبَ الظنّ إهانتَه، فالكلمةُ تقع ضِمن قاموسِ السُّباب الذي يُوحي بغيابِ الإحسَاس.
• • •
يُقال عن المرءِ إنه قد بَجَم إن استمسك بجموده في مواقف تستدعي أن يقوم تجاهها بأيّ رد فعل ملحوظ؛ وإذ يبدو ساكنًا فاترَ الوِجدان، لا يأتي بحرَكةٍ ظاهرةٍ ولا بإيماءةٍ تؤكد أنه حيٌّ واعٍ؛ فإنه يستحقُّ على الفور الوَصفَ المَذكور، بل وقد يُمنَى بأكثر منه؛ فحالُه هذه تغدو مُستفزَّةً، مُحرضةً للآخرين على استثارته بما حَوَت جعابُهم من وسائل.
• • •
إذا بَجَمَ الواحد في وجه مُحدثه فربما عن دهشةٍ أو صَدمةٍ مما تلقَّى، وقد يَبجم عن اعتلالٍ مُفاجئ أصابه أو فزع ألمَّ به، وبعض المرَّات يكون بُجومُه تهيُّبًا من المَوقِف والحضور. قد يُثقل الواحدُ قولَه ويُغلظ عباراته؛ لكنه يكتشف شيئًا فشيء أن السامعَ في وادي آخر بعيد، لا يتأثَّر بحديثه ويبدو في حِلٍّ من أيّ تفاعلٍ بشريّ طبيعيّ، فإن استمر الوضع على ما هو عليه، خرج المُتحدِّث عن طوره، وتجاوز أعرافَ اللياقة والتهذيب، وصاح من عَظيمِ غيظِه: حِسّ يا بَجَم. صيغةُ الأمر هنا تعكس الغَضبَ والاستنكارَ، بأكثر مما تفيد انتظار صاحبِها علامةً تنمُّ عن استقبال الآخر كلامَه، أو أمارةً تشي باستيعابه المَوقِف، والحقُّ أن المشاعرَ والأحاسيسَ مما لا ينفع فيه أمرٌ أو قسرٌ أو حتى منعٌ وتقييد؛ فثمّة ما يتوَلَّد داخل المَرءِ وينمو، ثم يظهر إلى العَلَن في توقيتٍ غير مَحسوب، أو ربما بقي مكنونًا مهمًا جرى ومهمًا استجلَبَ كبتُه من تأنيب.
• • •
بَجَم الناسُ أمامَ الشاشاتِ التي تنقلُ هولَ ما يَقع في أرضِ فلسطين. بَجَم ذوو الباعِ في السياسةِ وذوو الكلمةِ الحَكيمةِ الفاصلةِ والقولِ السَّديد. بَجَم كذلك هؤلاءُ الذين طالما ألقوا اللومَ على أصحابِ الحقّ، وتنصَّلوا من كلّ مسئوليَّة، وتراضوا على وُجودِ المُحتل؛ وحين جاءت اللحظةُ الحاسمةُ أُسقِط في أيديهم؛ فالمقاومون قد أعلنوا ألا تنازُل عن الأرضِ ولا استسلامَ أو رضُوخَ للجُور، وقد أثبتوا بمُرورِ الوَقت أن الكلمةَ بالفعلِ سيف؛ فلم يتراجعوا أمام آلةِ الحربِ الشَّرسة، المَدعومةِ من الغربِ بأقوى العتاد، ومن الشَّرقِ بحناجرٍ تؤدي أناشيدَ الشَّجب والتنديد الناشِزة، وبأصابعٍ من حريرٍ لا تعرف شرفَ النزال.
• • •
تحوَّلت الحياةُ بين يومٍ وليلةٍ إلى أسئلةٍ وتعليقاتٍ ومُتابعات؛ تدور جميعُها حول فلسطين ولا تقتَصِر على المَنطقةِ العربيَّة وحدِها أو على العالَمِ الإسلاميّ الذي انتمت إليه روحُ المُقاومة؛ إنما تنتشر وتعمُّ الكرةَ الأرضية. كثرٌ هم؛ هؤلاء الناس الذين جَهلوا الحقائقَ سلفًا، والذين امتلكوا صورًا ذهنيَّة نمطيَّة لم يعرفوا غيرها على مرّ العقود. كثرٌ هؤلاء الذي يدركون إذ فجأة حجمَ الخُدعة، فيمكثون لساعاتٍ وأيامٍ واجِمين، باجِمين، مُحملقين من هَول ما يرون، ثم تحرِكُهم ضمائرهم المَطعونة، فيخرجون إلى الشوارع مُعلنين الرَّفضَ والاعتراض، بينما آخرون يَعلمون يقينًا أصلَ القضيَّة وجذورَها منذ البداية؛ لكنهم يَبقون في سُباتٍ مُخيف.
• • •
السَّجع الكائن بين مُفردتيّ البَجَم والصَنَم مُغرٍ بالتناول، والمعان المُتقاربةُ التي تجمَعهما جاذبةٌ؛ ففي كليهما ثباتٌ لا يتبدَّل، وحَملقةٌ في عدمٍ لا تشوبها علامةُ حياة. الشخصُ البَجَم مثله مثل الصَّنَم؛ لا ينفع ولا يضُر، ولا تُرجى من ورائه فائدة، ما لم يُفِق ويُدرك حالَه.
• • •
ثمَّة مُفردةٌ ليست ببعيدة في نطقها ومعناها هي "وَجَم"؛ إذ تفيد بدورها الشرودَ والصَّمت. الوُجُوم هو المَصدر، ويُستخدَم في عالم الأدبِ بوفرةٍ، وكثيرًا ما نقرأ عن البَطلِ الذي ظلَّ واجمًا بعد نبأ مُفجِع تلقَّاه، أو عن هذا الذي يبدو واجمًا من فرطِ الحزن والأسى اللذين أصاباه، أو ذاك الذي وَجَم على أثرِ اتهامٍ طاله ولم يَجد منه مَخرجًا.
• • •
بين الأوصَافِ والمُفرداتِ المُتعدّدة نقع في دائرةٍ مُزعجة، نغرقُ في دوَّامات الكلامِ ونتناسى الأفعالَ، ننحو إلى استخدامِ البلاغةِ ونتجاهلُ تقاعسَنا عن الاضطلاع بالإجراءاتِ والأعمالِ الواجبةِ، ولا يبقى في نهاية الأمر إلا تاريخٌ يَسطُر هذا وذاك ولا يُجَمّل أحدًا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات