كمال نشأت ومحمد مندو..شجاعة شاعر.. ونزاهة ناقد - كمال رمزي - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 9:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كمال نشأت ومحمد مندو..شجاعة شاعر.. ونزاهة ناقد

نشر فى : الجمعة 29 أكتوبر 2010 - 10:39 ص | آخر تحديث : الجمعة 29 أكتوبر 2010 - 10:39 ص

 دخل إلى قاعة المحاضرة مبتسما كعادته، لكن ابتسامته هذه المرة بدت مختلفة، فإلى جانب ما فيها من ود معتاد، ثمة درجة من الشقاوة ممتزجة برغبة فى الحكى، والأهم أن وجهه يحمل خدوشا قليلة، سطحية، بالإضافة لأثر كدمات بسيطة. تجولت نظراته الرقيقة بيننا فيما يشبه المصافحة، فهو يعرفنا، بأسمائنا، فردا فردا، ذلك أن عددنا يتجاوز أصابع الكفين قليلا.. جلس على الكرسى ووضع حقيبته فوق المنضدة الصغيرة، وبطريقته الأخاذة، سواء فى السرد أو التقاط التفاصيل المعبرة، أخذ يروى عما حدث معه: أثناء سيرى فى شارع شبرا، فى طريق عودتى إلى البيت، توقفت أمام محل نجف.

من خلال الزجاج لمحت بالداخل سيدة محترمة، محتدة، تناقش المسئول فى أمر ما.. وما هى إلا لحظات حتى صفعها الرجل عى وجهها وانهال عليها ضربا، بمساعدة اثنين من الموظفين. دخلت، حاولت إغاثة السيدة، لكن أحدهم دفعنى للخارج وواصلوا ضرب السيدة. بلا تردد، خلعت جاكتتى وألقيتها جانبا واندلعت معركة لم تتوقف إلا بعد ضربة رأس منى فى حاجب صاحب المحل الذى وضع كفه، مذعوا، على عينه المخضبة بالدم.. «لم يفت الراوى أن يقوم بدور الأستاذ» تعرفون أن «الروسية» اختراع سكندرى فعال، وأنا ولدت وعشت معظم سنوات حياتى فى الإسكندرية.. المهم، جاءت الشرطة، وتحولت الواقعة إلى قضية، تولاها شقيق السيدة، من دون أتعاب طبعا، وجاء شقيقى، صلاح، الضابط الكبير فى سلاح البحرية، وقالى «أنت دائما تورط نفسك وتورطنا معك، السيدة عندها من يدافع عنها ويسترد حقها».. كدت أقتنع برأيه، لكنى وجدت نفسى أقول له، بصدق: إذا تكرر الموقف فلن أفعل إلا ما فعلته.

لا أستطيع أن أكون إلا نفسى، وأنا لست نادما على شىء.
بطل هذه الواقعة هو الشاعر، الناقد، الباحث، كمال نشأت «1923 ــ 2010»، حين قام بتدريس «الشعر» أو «الأدب» أو «اللغة العربية»، لا أذكر بالضبط اسم المادة، ليس بسبب مرور ما يقرب من نصف القرن، ولا بسبب بوادر الألزهايمر والعياذ بالله، ولكن لأن محاضراته لنا، طلبة قسم النقد بمعهد الفنون المسرحية، تكاد تعصى على التصنيف، ذلك أنها لم تكن مكبلة بمنهج معين، فهى تنتمى إلى ما يطلق عليه «محاضرات فى الحياة»، والحق أن هذا الاتجاه لم يكن قاصرا على كمال نشأت فقط، ولكن طريقة اتبعها بعض أساتذتنا الكبار، مثل محمد مندور ورشدى صالح.. الواحد منهم يجلس ويفتح أى موضع أو يثير قضية ما، ويحاول، مع طلبته، اكتشاف جوانب وأبعاد الموضوع أو القضية، وبالتالى تتحول المحاضرات إلى رحلات ذهنية ممتعة، فى التاريخ والسياسة والفن والعواطف والنفس الإنسانية والقيم الأخلاقية.

واقعة مشاجرة كمال نشأت، فى محل النجف، فتحت المجال لمناقشة المطالبة بالحقوق، والإصرار الشجاع على استردادها، وشهامة الوقوف إلى جانب المظلوم.. قال كمال نشأت إن السيدة تستحق التقدير لأنها ثارت عندما اكتشفت استبدال كريستال نجفتها بقطع من الزجاج، وأنه كان مدفوعا دفعا للوقوف إلى جانبها.. وتطرق الحوار لثنائية الضعيف والقوى، العبد والسيد، خائر العزيمة وصلب الإرادة، الجهل والوعى.. حينما ورد ذكر عبدالرحمن الكواكبى، وكتابه الفريد «طبائع الاستبداد»، الذى وصل فيه إلى نتيجة تتعلق بأخلاقيات العبيد التى تستكين لسوط جلادها، التى لن تتغير إلا إذا أدرك العبيد أن ثمة حياة مختلفة، أفضل وأشرف من الحياة التى يعيشونها، وهنا يبرز دور المثقف فى نشر الوعى عند المظلومين بإمكانية تغيير واقعهم.

توافقت هذه المحاضرة، مع محاضرات سابقة ولاحقة، تدور حول القصائد التى اختارها كمال نشأت للدراسة، وهى وإن جاءت قليلة العدد، فإن طريقة تحليلها، والاهتمام بتفاصيلها، والتعمق فى معانيها، وتأمل صورها وتركيب مفرداتها، جعل منها جزءا من الذاكرة، لا تبهت بسهولة، وهى، فى ذات الوقت، تعبر عن مزاج كمال نشأت من ناحية، والمزاج العام من ناحية أخرى، ولعل خير دليل على هذا قصيدة «البعث الأفريقى» لمحمد الفيتورى، الواردة فى ديوان «أغانى أفريقيا»، وبالتحديد فى المقطع التالى:

أفريقيا..
أفريقيا استيقظى
استيقظى من نفسك القابعة
أكل ما عندك أن تلعقى أحذية المستعمر اللامعة
أكل ما عندك أن ترقدى
خاملة.. خائرة.. خاضعة
أكل ما عندك أن تصدرى قوافل الرقيق...
يا ضائعة!

أثارت هذه القصيدة، بخصوصيتها وعموميتها، ونفحتها الحداثية حين ذاك، العديد من القضايا ذات الشأن، سواء على المستوى الفكرى أو العاطفى أو الفنى، مثل مدى مسئولية الأفارقة فى وضعهم المتردى، وحق العاشق «الفيتورى ونشأت ونحن» فى تأنيب معشوقته، وربما توبيخها أيضا، ثم فن شعر «الحض»، واختيار الكلمات التى تجمع بين الأمر والعتاب، وإذا كانت القصيدة تتجاوب مع طموحاتنا حينذاك، الآملة فى أفريقيا جديدة، الغاضبة على أفريقيا الضعيفة، فإن «البعث الأفريقى» يتوافق مع توجهات كمال نشأت الذى أنشد فى قصيدته «يا مصر» البيتين التاليين:

يا مصر يا وطن الأباة
حتام يحكمنا الطغاة
النائمون على الحرير
ونحن فى بلد العراة.

«الساكت عن الحق جبان ووغد أسوأ من شيطان أخرس»، هذا ما قاله كمال نشأت، مؤكدا أن آخرين وقفوا معه من قبل، كما وقف هو إلى جانب السيدة الكريستان، وأعاد سرد الوقائع التى سأحكيها حالا، وكان بطلها محمد مندور.

المشَّاء
كمال نشأت من المشائين، أى من الذين يعشقون السير على الأقدام، وفيما يبدو أنها هواية، تأصلت عنده فى ذهابه وإيابه على كورنيش البحر فى الإسكندرية، وانتقلت معه إلى القاهرة التى لم تكن بزحام هذه الأيام، فمدينة الفنون، كانت محاطة بالحقول من كل جانب، وأمام معهد الفنون المسرحية تمر ترعة تمتد إلى أن تقترب من مزلقان قطارات، تعبره كى نصبح فى ميدان أم المصريين، آخر خطوط عدة أتوبيسات، ننتظر حتى يركب الأستاذ العربة، أى الأتوبيس، فكمال نشأت مثل معظم الأساتذة، لا يملك سيارة خاصة.. هذا المشوار، فى صحبة الأستاذ الحكاء، كان متعة خالصة، فهو يروى القصة بانفعالاتها، وظلالها، وأحيانا يتوقف عن السير، ونتوقف معه، ليشرح، بأحاسيس ساخنة ما خفى من تفاصيل، ومن هذه الحكايات، تلك التى حسمها الدكتور محمد مندوور.

أصل الحكاية أن «وزارة الثقافة والإرشاد القومى» عام 1961 نشرت جميع قصائد «إبراهيم ناجى» «1898 ــ 1953»، وكونت لجنة لهذا الغرض مكونة من أحمد رامى، أحمد هيكل، محمد ناجى شقيق الشاعر، والأهم، صالح جودت، الذى قيل إنه من أخلص أصدقاء شاعر الأطلال.. وفعلا، جمعت اللجنة الدواوين الثلاثة التى نشرت لإبراهيم ناجى، وهى «وراء الغمام»، و«ليالى القاهرة»، و«الطائر الجريح»، بالإضافة لسبع عشرة قصيدة لم تنشر من قبل، وتبين بعد صدور الكتاب، أن هذه القصائد الجديدة ليست لإبراهيم ناجى، ولكن الذى كتبها هو كمال نشأت، والأدهى أن ست عشرة منها نشرت فى الديوان الأول لكمال نشأت والذى حمل عنوان «رياح وشموع» عام 1951.. وكان كمال نشأت، المتأثر ــ جزئيا ــ بجماعة «أبوللو»، أرسل هذه القصائد لإبراهيم ناجى كى يكتب لها مقدمة، ولكن ناجى، لسبب أو لآخر، لم يكتبها.

الغريب فى الأمر أن اللجنة الخائبة، وعلى رأسها صالح جودت، أخذتها العزة بالإثم، وبدلا من الاعتذار، اندفعت فى مهاجمة صاحب الحق، ووجدت من يقف إلى جانبها، فبينما وصف صالح جودت القصائد المنتحلة بأنها من «الشعر الردىء»، كتب محمود السعدنى، بمنطق مجحف، أن ورثة الدكتور إبراهيم ناجى هم الذين تضرروا من تسلل قصائد كمال نشأت إلى أعمال الشاعر الكبير.

هنا، يأتى دور النزاهة وشجاعة تحرى العدالة، ممثلة فى موقف محمد مندور، معتمدا على ثقافة عريضة، عميقة، فضلا عن خبرة جديرة بالاحترام، فكتب دراسة ضافية مكونة من شقين، أحدهما أخلاقى، يدين المكابرة، ويرفض الاستخفاف بحقوق الآخرين.. وثانيهما يتمثل فى القراءة النقدية، الفنية، لكل من الشاعرين، ليس من باب المفاضلة، ولكن بهدف بيان الفروق التى تميز أحدهما عن الآخر، والتى كان جديرا بصاحب الصوت الصاخب، صالح جودت، أن يلتفت لها.. وصل مندور، الأستاذ، بنتيجة مؤداها أن المرأة الحلم أو طيف المرأة هى المحور الوحيد عند ناجى، بالإضافة لبعض المراثى، بينما المرأة الحقيقية، الواقعية، الملموسة والمسموعة، لها حضور واضح عند كمال نشأت، هذه الملاحظة الدقيقة التى رصدها مندور، تتجلى حتى فى قصائد تالية لكمال نشأت، حيث تغدو المرأة شريكة حياة، بل جزءا من الحياة، ولعل قصيدة «نامت نهاد» التى كتبها عن ابنته الرضيعة، الواردة فى ديوان «أنشودة الطريق»، خير دليل على صحة ما ذهب إليه الناقد المرهف، محمد مندور.

أما الفارق الثانى الذى لمسه مندور فيتمثل فى قوة عاطفة ناجى الملتهبة «كالجمر»، بينما اتسعت رؤية كمال نشأت لتشمل الماضى والحاضر والمستقبل، وتهتم بالوطن والناس والقضايا السياسية، معبرا فى هذا عن «نزعة تحررية اشتراكية ثائرة».

طبعا، لم يسلم مندور من بعض المماحكات الهزيلة والهزلية، كأن يصفه صالح جودت بأنه صاحب لون «أحمر» أو «قرمزى»، أو أن يصفه محمد السعدنى بأنه «اقطاعى.. من العهد البائد»، ولكن بقيت شهادة مندور كمنهج ودليل نزاهة، ترفض الظلم والتواطؤ، كما ظلت أشعار كمال نشأت، وموقفه من سيدة الكريستان، تأكيدا على قيم الشجاعة والشهامة.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات