مذبحة - كمال رمزي - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 8:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مذبحة

نشر فى : السبت 29 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 29 يونيو 2013 - 1:08 م

ما حدث يتجاوز خيال «سام باكمباه» و«أشرف فهمى».. الاسم الأول لمخرج أمريكى يطلق عليه النقاد وصف «سام المجنون»، وذلك بسبب ما تتضمنه أفلامه من مشاهد شديدة العنف، تتجلى فى «الصحبة المتوحشة» و«كلاب من قش» و«احضر لى رأس فريدو»، حيث تندلع المعارك البدنية، تستخدم فيها قبضات الأيدى والأسلحة البيضاء والمسدسات وشعلات النار.

 

وبينما اتجه «باكمباه» إلى ما يسمى جماليات العنف، فيتعمد، بالتصوير البطىء، طيران جسم إثر صدمة عربة، أو استخدام موسيقى «الدانوب الأزرق» لشتراوس مع تسابق الشاحنات وصراعها، فإن أشرف فهمى، فى أفلامه مثل «اغتيال مدرسة» و«سعد اليتيم» و«الشيطان يعظ»، تأتى مذبحة النهاية كرد فعل لسلسلة من الظلم، مارسها طرف متجبر ضد طرف ضعيف، مسالم، يتعلم كيف يصفى حسابه، ويغرق جلاده فى حمام دم.

 

هذه الأفلام، وغيرها من الأعمال الروائية، تبدو فى عنفها هزيلة هادئة إذا قيست بالأشرطة الوثائقية، ذات الطابع الكابوسى الصاخب، التى رصدها هواة، بواسطة هواتف نقالة، لما جرى فى جحيم «أبوالنمرس» البلدة التعيسة بمعاناتها المرة قبل حفلة الدم بعدة أيام، حيث اختطف طفلان من أبنائها، ولأن الأهالى لم يتمكنوا من تدبير الفدية، فإن الخاطفين، الأوغاد، قتلوا الطفلين.

 

هاجت البلدة وماجت، خرجت وقطعت طريق «سقارة السياحى» ـ أسلوب المصريين فى الاحتجاج ـ وبعد ساعات من المفاوضات، نجحت قيادات أمنية فى فتح الطريق، ولكن لوعة القلوب الجريحة ظلت مشتعلة فى الأعماق.

 

قبل الحديث عن تفاصيل المشاهد، ثمة لقطة جديرة بالقراءة، فإلى جانب جثة، تظهر مجموعة من الأقدام، إذا دققت النظر ستجد أنها تصلح كبطاقات هوية، تبين بوضوح المستوى الاقتصادى والاجتماعى لأصحابها، فبعضهم يلبس إما شبشبا قديما أو صندلا مهترئا، والبعض حافيا تماما، على مشط قدمه قطرات دم.. ومن هذه الفئة الأخيرة أحدهم رفع قدمه ليضرب بها صدر الجثة العارى. هنا مجموعة من الفقراء قست عليهم الحياة، وتحولوا إلى جلادين، الأمر الذى يثبت أن الضعفاء اقتصادا ووعيا وأخلاقا من الممكن أن يصبحوا وحوشا جائعة.

 

لكن ليس كل المشاركين فى المذبحة من الحفاة، فأحد الأشرطة يتضمن مجموعة من الشباب، يرتدون بناطيل وقمصانا تشى بأنهم من ميسورى الحال، جزء منهم يقف فى الشارع يقذف بزجاجات بنزين إلى شرفة الدور الثانى فى بيت يقف فوق سطحه مجموعة أخرى من الشباب، تلقى بقطع الخشب والقماش إلى أرضية الشرفة كى يزداد اشتعال النيران.. وفى شريط آخر، نشهد عددا منهم، إما مشاركا فى الجريمة، أو ينهمك فى تصوير عمليات القتل، محاولا اختيار أفضل زوايا التصوير وأوضحها.

 

هنا تتسع أطراف القضية، فالجناة، ليس مجرد فقراء غاضبين، حسب التفسير الكلاسيكى السهل، وبالتالى، لابد من البحث فى أسباب تحول هؤلاء «الأفندية» إلى مجرمين، سواء بالممارسة أو التواطؤ أو الصمت الجبان. ربما تجد الإجابة فى غياب ثقافة التنوير.. مدينة «أبوالنمرس» التى يقال إنها تعنى فى اللغة الهيروغليفية «مكان العشق والغرام» تخلو من دار عرض سينمائى، وليس بها فرقة مسرحية، ولا تتزين لياليها بندوات أو أمسيات أدبية.

 

وبالضرورة امتلأت العقول الخاوية والمشاعر المتبلدة بأفكار خاطئة وعواطف معطوبة، روجها أناس، أنت وأنا، نعرفهم تماما يرتدون الجلابيب البيضاء، يطلقون اللحى، ينشرون أجواء الكراهية، يحرضون على المقت، يدعمون البيئة الحاضنة لممارسة أشد الجرائم خسة، حيث يهجم الآلاف بعنف ونذالة على عدة أشخاص.

 

فى الشرائط عند باب بيت الضحايا زحام وفوضى، ثلاثة رجال مطروحين أرضا برءوسهم الدامية يرفعون منهكين أيديهم اتقاء لضربات الشوم والعصيان المتوالية وأحدهم يحاول تلقى الضربات بدلا من الآخرين.. المجاميع تسحب الرجال إلى الشارع تجرجرهم يشتد الزحام حولهم وثمة فى مرور عابر من الكاميرا رجل يحمل موسى حلاقة من الذى يستخدمه الحلاق.

 

وسط الضوضاء، يمكنك أن تميز صوتين أحدهما يحمل نبلا يثبت أن النزعة الإنسانية موجودة وإن كانت خافتة، تتجسد فى أحد الأهالى يقول «كفاية.. كفاية»، ولكن صوته يضيع وسط هدير الصوت الآخر الموحد الذى يردده، قاتلون يقولون «الله أكبر.. الله أكبر».

 

منظر الجثث لم نر له مثيلا فى الأفلام الروائية فالخيال والمكياج من الصعب أن يجعلا الوجوه الآدمية منتفخة إلى هذا الحد، وبينما عين أحد الضحايا مختفية تحت كتلة زرقاء أميل للسواد، تبدو العين الثانية نصف مفتوحة تطل على غياهب الموت.

 

تفاصيل الأشرطة المؤلمة لا يليق بنا أن نشيح بوجوهنا بعيدا عنها، فهى وإن كانت وثيقة عار فإنها لنا وعنا، تقدم جانبا مظلما من أهالينا، ليس الأوغاد الذين قاموا بالمذبحة فقط، ولا لذلك النذل الذى يجر جثة مربوطة من عنقها بحبل، ولكن أيضا لذلك الموكب من الجبناء، الذين يسيرون بلا مبالاة خلف جثة عارية.. تطلب الستر.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات