الميلاد الثالث للتنين الصينى - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 2:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الميلاد الثالث للتنين الصينى

نشر فى : الأحد 29 مارس 2020 - 9:55 م | آخر تحديث : الأحد 29 مارس 2020 - 9:55 م

عند الضربات الأولى لوباء «كورونا» المستجد بدت الصين بوضع انكشاف، أحاطتها ظلال كثيفة وتساؤلات لا يمكن تجاهلها عن حقائق وأسرار ما جرى قبل أن تنتقل العدوى إلى العالم بأسره.
بقدر التكتم الذى صاحب البدايات اهتزت صورة التنين الصينى، غير أنه سرعان ما أثبت كفاءة استثنائية فى حصار الوباء بأسرع من أى توقع.
كانت تلك شهادة لا يستهان بأثرها على مستقبل الصين فى عالمها.
النموذج الصينى فى مكافحة الوباء بالحجر الصحى المشدد أقرته منظمة الصحة العالمية واتبعته الدول كافة، بلا استثناء، كل الذين حاولوا بناء نموذج آخر اضطروا إلى اتباعه بقوة الرفض الشعبى لأى مقامرات بحياة المواطنين.
قياسا على الأوضاع المتدهورة فى القارة الأوروبية، وداخل الولايات المتحدة نفسها تحت ضربات الوباء، لم يستبعد كثيرون أن تصعد الصين إلى مقود القيادة الدولية فى النظام العالمى الذى قد يولد بعد أن تنقضى الجائحة، كما حدث أن صعدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية.
هذا استنتاج له ما يسنده من قرائن وشواهد، غير أنه يحتاج إلى وقت طويل نسبيا حتى يكتسب حساباته وموازينه فى عالم متغير.
ينفى الصينيون عادة أنهم قوة عظمى، ينسبون أنفسهم إلى العالم الثالث، يقولون إنهم ما زالوا تلاميذ على مقاعد الدرس والتعلم من تجارب الدول الأخرى.
يدركون بيقين أن بلادهم عملاق اقتصادى يكاد يقفز إلى المرتبة الأولى فى الاقتصادات العالمية على حساب الولايات المتحدة، غير أنهم بذات الوقت يدركون قدر الفقر المدقع الذى تعانى منه مناطق واسعة من بلادهم.
رغم تراكم المال والسلاح إلى مستويات قياسية فإن الصين ليست فى عجلة من أمرها للعب أى أدوار عظمى.
ليس هناك ما يدعو للاعتقاد أنها سوف تغيّر سياسة النفس الطويل، التى تعود أصولها إلى العصور الغابرة، كما صاغها «كونفوشيوس».
الحكمة ــ فى تعاليمه ــ أن تعرف مواطن ضعفك قبل قوتك.
أكثر ما يثير الالتفات بالتجربة الصينية قدر التواضع فى النظر إلى حجم الإنجاز وحجم تراكم خبرة بناء الدولة دون صدام مع شرعية الثورة، التى قادها إلى النصر عام (1949) زعيمها «ماو تسى تونج».
كانت تلك الثورة بأحداثها ومنعرجاتها وعواصفها التأسيس الأول للصين الحديثة، أو الميلاد الأول.
بعد رحيل «ماو» عام (1976) دخلت الصين لمدة عامين فى صراعات سلطة وفترة حيرة فى أى طريق تذهب، حتى أمسك بمقاليدها «دينج هسياو بينج» ــ نائب رئيس الوزراء التاريخى «شواين لاى»، وتلميذه الأقرب ــ وشرع فى وضع اللبنات الأولى لسياسة الانفتاح الاقتصادى، وفق ما أطلق عليه «اقتصاد السوق الاجتماعى».
النتائج فاقت كل توقع، على نقيض ما حدث فى مصر عام (1974) باسم الانفتاح الاقتصادى، الذى استحال إلى نوع من التخريب المنهجى للمقدرات العامة، ونهب الثروات الوطنية، وتفشى الفساد، وإلحاق البلد كله باستراتيجيات التبعية على المستويات كافة.
فى أقل من (40) سنة بنيت الصين من جديد على أسس حديثة، حركة الاستثمار تمضى بكامل قواعد الإدارة الرأسمالية فى إطار مخطط الدولة، التى أتاحت للمنتجات العالمية الشهيرة من وجبات الطعام السريعة إلى السيارات والملابس والأجهزة الإلكترونية أن توجد فى سياق صينى محكم، يراكم الخبرة بالحداثة ويتيح لمواطنيه من أبناء الطبقة الوسطى ذات مستوى ما يتمتع به نظراؤهم فى العواصم الغربية.
كان ذلك التأسيس الثانى للصين الحديثة.
يصعب نسبة الطفرة الاقتصادية الصينية إلى أفكار «ماو» إلا بقدر تراكم التجربة، فقد فتح الباب واسعا للتغيير ونقل البلد كله من حال إلى آخر، من التخلف المفرط وحروب الأفيون ومستوطنات الذباب إلى القرن العشرين وحقوق مئات الملايين فى العدالة والتنمية والحياة بكرامة.
الانتساب إلى «ماو» مسألة شرعية، غير أن الماوية، من حيث هى أفكار وتصورات وسياسات، تكاد أن تكون قد طويت.
احترام إرث الماضى وتصحيحه، دون صخب، مكّن بلدا يبلغ عدد سكانه نحو (1.5) مليار نسمة من عبور أى منزلقات تعوق تقدمه خطوة بعد أخرى على طريق الألف ميل، استلهاما للحكمة الصينية الشهيرة.
المبدأ الصينى الحاكم فى إدارة السياسة العامة يمكن تلخيصه على النحو التالى: أكبر قدر من المصالح وأقل قدر من المنازعات.
هكذا تراكمت حقائق القوة بدأب طويل، وبدأ السؤال يطرح نفسه: كيف تتصرف فى فوائض القوة المتراكمة والتى سوف تتراكم؟
تراكم المال والسلاح يوفر أساسا متينا للقوة العظمى، لكنه لا ينهض وحده بالمهمة ما لم يستند إلى بنية سياسية وإعلامية تلهم أوسع مشاركة وتضخ الدماء فى بنية النظام وقدرته على التجدد والتحديث والحفاظ بالوقت نفسه على قوة الدفع.
بقدر الرهان على مكانة صينية أكبر فى النظام العالمى، الذى قد يولد بعد الجائحة تطرح الأسئلة الكبرى نفسها على الصينيين قبل غيرهم.
تمكن الصين من تطويق الوباء بأكبر قدر ممكن من التنظيم والانضباط والكفاءة أضفى عليها صفة «الدولة العظمى».
كان ذلك كاشفا لما هو تحت السطح من انتقال بطىء ومطرد للتأسيس، أو الميلاد الثالث للصين الحديثة، كدولة عظمى مؤهلة أن تحوز مكانة أكبر فى النظام العالمى.
نحن أمام تجربة نجحت فى توظيف الروبوتات وتطبيقات جديدة لتكنولوجيا الاتصالات، بقدر ما تملكه من انضباط تنظيمى وشبكة طرق حديثة، فى تطويق الوباء.
تبدت قوتها فى المدى الذى وصلته تكنولوجيا البناء فيها، بما مكّنها من بناء مستشفيات ميدانية فى غضون أيام عند مركز الوباء بمدينة «ووهان».
أخليت الآن تلك المستشفيات من المصابين وبدأت تدب الحياة العادية فى المدينة المنكوبة، عاد الأطباء من حيث جاءوا، استقبلوا فى مطار العاصمة بيجين بالتحية العسكرية من قوات مروا بينها.
نحن أمام تجربة تقدمت لمد يد العون إلى دول أخرى فى القارة الأوروبية، بعد أن طوقت الوباء فى بلادها، فيما تبدو الولايات المتحدة ــ القوة العظمى الحالية ــ شبه مرتبكة أمام ضربات الوباء.
لا يوجد تفسير متماسك للتحرش السياسى والإعلامى للإدارة الأمريكية بالصين فى وقت محنة إنسانية لا تسمح بمثل تلك التصريحات، كوصف الوباء بـ«الصينى»، سوى ما تثيره تجربتها من احتمالات وسيناريوهات لصعود قوى وتراجع أخرى بعد انقضاء الجائحة.