لعب عيال - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 1:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لعب عيال

نشر فى : السبت 28 أكتوبر 2023 - 10:10 م | آخر تحديث : السبت 28 أكتوبر 2023 - 10:10 م
تتعالى ضحكات مجموعة من الأطفال فى أروقة المشفى بغزة وهم يلعبون «شهيد»، حاملين رضيعة فى قطعة قماش، مرددين «الشهيد حبيب الله»، كما يفعل الكبار حين يودعون أحباءهم. الفيديو انتشر على وسائل التواصل الاجتماعى خلال الأسبوع الماضى، مثلما شريط آخر يصور تلاميذ مصريين يلهون أثناء عودتهم من المدرسة بشارع فيصل، أحد أكثر مناطق الجيزة ازدحاما، وهم يصيحون بالهتاف الشهير الذى سمعوه غالبا فى مدرجات كرة القدم المصرية: «شمال، يمين، ك... إسرائيل». يصرخون ضد كيان محتل كما كان يفعل أجدادهم على الأرجح، وهم يلعبون فى الأزقة والحوارى، مرددين الدعوة التى حفظوها عن ظهر قلب وقتها، وظلت محفورة فى الذاكرة: «يا عزيز يا عزيز.. ضربة تاخد الانجليز».
قلوبنا تعتصر ألما ونتعجب من قدرتهم على التكيف مع الحزن والدمار، ومن سرعة دمج الواقع فى الألعاب، ونقول لأنفسنا: خيالهم لايزال ناشطا، فالأطفال يلعبون مثلما يتكلم الكبار.. اللعب هو وسيلتهم للتعبير، وهذه المقدرة التخيلية الهائلة لديهم تشكلت من الحرمانات الكثيرة المتراكمة وخبرة الإمكانات المحدودة. يمزجون الجد بالهزل كمن يتحايل بالخيالات على كوابيس الصحو والمنام. ونقف عاجزين أمام مثل هذه المشاهد، لا نعرف متى ينتهى اللعب ومتى تبدأ الحرب، وأين تقع المساحات الفاصلة بينهما بالضبط؟ وما هى اللحظة التى يتحول فيها الطفل إلى مشروع مناضل أو مجاهد؟
بعد هذا النوع من المواجهات الضارية والمباغتة بين عالمى البراءة والحرب يتبدل حال الصبية والبنات. تضيع منهم عدة أشياء فى لحظة ويتعلمون معها الكثير. حياتهم تنقلب رأسا على عقب، يفقدون كل ما تعودوا عليه فى السابق ويكتسبون مهارات أخرى تدخلهم سريعا إلى صراعات الكبار. رأوا هؤلاء يرتجفون فى المخابئ أثناء القصف المزلزل، المئات والآلاف من البالغين الذين كانوا يشكلون لهم الحماية لقوا حتفهم أمام أعينهم، وبالتالى لا يملكون سوى التحايل باللعب وإخضاع الواقع للقليل من الفانتازيا التى قد تسمح لهم أحيانا بالانتصار. يتشكل فى أذهانهم جدول زمنى للأحداث خاص بكل منهم، بحسب ما تعرض له... هناك واقعة معينة كانت حدا فاصلا يمكنه أن يؤرخ لما قبلها وما بعدها، ويظهر ذلك جليا عند الاطلاع على دفاترهم الشخصية أو يوميات الأطفال خلال حروب سابقة.
• • •
الصور نفسها التى نشاهدها اليوم لصغار يواسون أنفسهم ويرتاحون حين يجدون فردة شبشب مشطورة نائمة على بطنها ويلتقطونها من تحت الأنقاض، أو يفرحون بأشلاء دمية نص مدفونة يظهر رأسها بخصلات شقراء خشنة وقد فقئت إحدى عينيها، هى الصور ذاتها التى وصفها أطفال آخرون فى تدويناتهم خلال الحربين العالميتين، بعضهم كان من أبناء اليهود ضحايا العنصرية النازية. ما أشبه الليلة بالبارحة، فالكبار يمارسون منذ سنوات لعبة التبادل بين الضحية والجلاد، والصغار هم من يقعون دائما فى الفخ.
وردت أمثلة مختلفة على ذلك فى دراسات أجراها باحثون أجانب حول ألعاب الحرب لدى الأطفال خلال الحكم النازى، وصف فيها هؤلاء إعادة تمثيل الأولاد فى عمر الرابعة والسادسة للإعدامات الجماعية فى ميدان عام ببولندا خلال الهولوكوست، وصلتنا أصوات بعضهم من خلال كتاباتهم. أشار مراهق يدعى بيرج فى يومياته، وهو فى الرابعة عشرة من عمره، إلى منظر السماء وقد لونتها الصواريخ وألسنة اللهب بالأصفر والأحمر خلال ليل بهيم ظل يتذكره ولم ير مثله فى كل الأفلام والعروض الفنية التى شاهدها طيلة حياته. وتحدث طفل آخر فى الثامنة، جاء من جيتو وارسو فى مطلع أربعينيات القرن الفائت، عن علاقته الملتبسة مع العدو الذى يكرهه ويحسده فى آن واحد، بل يريد أن يصير مثله قائلا: «أريد أن أسرق، أن أقتل، أن آكل، أريد أن أصبح ألمانيا».
كان الأطفال وقتها يلعبون «عسكر ويهود»، تماما كما يلعب أطفال فلسطين منذ سنوات «عرب ويهود» ويشعلون النيران فى مادة «الخريص» التى تستخدم للتنظيف فى البيوت ليصنعوا أضواء جميلة لافتة للأنظار ويلعبون بها فى الشارع خلال رمضان، مع إطلاق بعض المفرقعات التى ترافق مدفع الإفطار. وبالطبع كل الأصدقاء يجمعون القنابل الفارغة والرصاصات وبقايا الأسلحة والقذائف لكى يحولوها إلى أدوات زينة ومقتنيات خاصة يتبارون لامتلاكها.
فى الظروف المماثلة تكون الألعاب هى المخرج لكل الأحاسيس المعقدة والملتبسة، إذ تسمح للأطفال أن يسيطروا على الوضع ولو جزئيا فى حدود قدراتهم، أن يروضوا الحرب على طريقتهم، وتظهر ألعاب القتال ذات الرمزية العالية، وهى بعكس الشائع لا تحض على العنف أو تدفع نحو المزيد من العدوانية، بل تساعد على تفريغ الغضب والحسرة.
• • •
قد لا يظهر الأطفال كثيرا حين تكتب السردية التاريخية للصراعات ودراسات التحولات الاجتماعية، فى حين هم عناصر فاعلة وأساسية فيها. تعكس ألعابهم ما حدث ويحدث كل يوم، وتروى كيف تم استخدامها فى السابق كوسيلة فعالة للدعاية الموجهة أو البروباجندا، فعند اندلاع الحرب العالمية الأولى مثلا كانت ألمانيا هى الدولة المسيطرة على سوق ألعاب الأطفال، وروت الكاتبة سيمون دى بوفوار فى مذكراتها أنها رفست دمية صغيرة كانت لأختها، عام 1914، لأنها ألمانية الصنع، كدليل على إحساسها الوطنى المرهف. انتبهت فرنسا وبلجيكا لهيمنة برلين على خريطة الألعاب فحاولتا بذل مجهودات كبيرة فى هذا المجال، كان نتاجها ألعاب لاتزال موجودة حتى الآن منها لعبة «سفينة حربية» التى يتسلى بها أطفال العالم دون أن يلموا بظروف ابتكارها، وظهرت أيضا فى تلك الأيام العروسة التى تلبس زى ممرضة والعساكر المعدنية الصغيرة والأزياء التنكرية التى تشبه بزة الجنود، إلى ما غير ذلك من الهدايا التى كان يحلم بها الصغار أثناء الحرب واستمرت موضتها لسنوات.
على هذا النحو تنقل الألعاب مشاعر أهل البلاد المختلفة فى كل زمان ومكان. وهو ما حدث منذ أيام قليلة حين رأينا الأطفال والمراهقين المتضامنين مع فلسطين يقلبون عالم «روبلوكس»، وهى لعبة فيديو أونلاين أمريكية المنشأ تجمع حولها الملايين منذ ظهورها عام 2004، إذ قرروا تنظيم مظاهرة افتراضية لمناصرة غزة فى فضاء اللعبة بما أنهم لا يستطيعون النزول إلى الشارع، وذلك بناء على مبادرة انطلقت من أحد رفقاء اللعب فى ماليزيا. تجمع نحو مائتى لاعب فى ذات الوقت بشخصياتهم الرقمية، زينوها بأعلام فلسطين وغنوا «ضد ظلم الأمريكان» وبعثوا رسالة دعم لمن يموتون وهم فى مثل سنهم، وكأنهم يردون على كلمات ولد فلسطينى ممتلئ الخدود، نسيت اسمه من قسوة ما نطق به حين سألوه عن حلمه حين يكبر، إذ قال دون تفكير إن أطفال غزة لا يكبرون لأنهم يتعرضون دائما للقتل المبكر.
التعليقات