فوضى القارة الملونة - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 3:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فوضى القارة الملونة

نشر فى : السبت 26 أغسطس 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : الأحد 27 أغسطس 2023 - 12:18 ص
رغم خطورة الصراعات الدائرة فى بعض الدول الإفريقية مثل السودان والنيجر وغيرهما، أضبط نفسى متلبسة أحيانا، وأنا أتابع الأخبار على شاشة التليفزيون، بمراقبة ألوان القارة السمراء وحركات الحشود بملابسها الزاهية مع بساطتها. الظرف بالطبع لا يسمح فمصير الآلاف المؤلفة من البشر على كف عفريت، لكن هذا لم يمنع الذاكرة من إحالتى لأعمال أحد أهم الفنانين التشكيليين الأفارقة فى الوقت الحالى والذى يتمتع بشهرة عالمية منذ نحو ثلاثين عاما ويصل سعر لوحاته إلى مائة ألف يورو فى بعض الأحيان، وهو شيرى سامبا. الرسام المشاكس، الذى يعيش فى الكونغو حيث ولد قبل ستة وستين عاما، يميل دوما إلى استخدام ألوان زاعقة تضج بالحيوية مثل القارة التى حباها الله بشمس ساطعة على مدى السنة، وهو يكرر باستمرار أن لوحة ألوانه تتناسب مع المناخ الإفريقى الذى لا يعرف سوى موسمين فقط: الأول جاف والثانى مطير. والضوء خلال هذا الأخير تحديدا يجعل ألوان الطبيعة واضحة صريحة، لا تعرف الرمادية أو المواربة.
تتناول أعمال شيرى سامبا موضوعات شائكة مثل الفساد والتبعية والإرث الاستعمارى والفقر والتفاوت الاجتماعى وعدم المساواة والعنصرية والتغيرات السريعة التى تطرأ على الثقافات المحلية، وهو يلجأ إلى السخرية ليخفف من وطأة الغبن والعنف اللذين تتعرض لهما القارة، ويضيف أحيانا بعض الكلمات أو الجمل ليؤكد على معنى أو رسالة بعينها، ما يقارب بين أسلوبه والقصص المصورة أحيانا أو حتى فنون الشارع، وهو الذى بدأ حياته المهنية بإنجاز رسومات للصحف وشركات الدعاية.
لسامبا عمل بعنوان «أحب الألوان» يرجع تاريخه لعام 2003، يصور فيه نفسه كعادته فى الكثير من اللوحات بدلا من أن يسخر من أحوال غيره، يظهر فيه بوجه شاحب وجلد متقشر مثل البرتقالة، واضعا ريشة الألوان فى فمه، ويقول لسان حاله «أحب الألوان». وفى عمل آخر أحدث يرسم ابنته هذه المرة، وعلى وجهها أشكال حلزونية، يكرر الوجه ست مرات وفى كل مرة ينفذه بلون بشرة مختلف (أبيض، أسمر، أصفر، أحمر، هجين، أمهق)، ليؤكد على إيمانه بأن جميع البشر سواسية وعلى رفضه لفكرة «الملونين»، تماما كما يرفض تسمية «الفن البدائى»، مفضلا أن يتم تعريفه كفنان شعبى تلقائى علم نفسه بنفسه. «الناس لم يفهموا على ما يبدو، لذا أكرر رسالتى، كل ما أدعو إليه ببساطة هو أن نتقبل التنوع والتعدد، أن نتقبل أنفسنا كما نحن، وندع العنصرية جانبا، لا فرق بيننا».
• • •
الأجساد المطلية بالألوان تشكل لقاحا واقيا للجمال فى مواجهة الحزن. شعوب لا تكف عن الرقص والغناء شكرا للشمس التى منحتهم الدفء والضوء. لكن لا أحد يرغب فى أن يمضوا إلى حال سبيلهم، رغم مرور سنوات على الاستعمار لاتزال جذوره ضاربة فى القارة، ومقاليد الأمور فعليا فى يد الغرباء وفقا لشيرى سامبا الذى كانت انطلاقته الحقيقة مع لوحة «سحرة الأرض» سنة 1989، إذ ذاع صيته حول العالم بعد عرضها بمركز جورج بومبيدو فى باريس خلال العام نفسه.
يكتفى الفنان بطرح الأسئلة فى وقت تتحول فيه الأرض إلى مستشفى مجانين هائلة ومقبرة عامرة. طبول إفريقيا تستدعى الآلهة، وألوانها تظل تذكرنا بالذى مضى فى كل مرة ترفرف أعلام بلدانها المختلفة، لأن هذه الأخيرة تتميز بألوان صارخة تروى قصتها، يسيطر عليها الأحمر والأصفر والأخضر، خاصة دول غرب إفريقيا مثل السنغال ومالى وغانا ونيجيريا وبوركينا فاسو. استلهمت هذه الدول ألوان أعلامها من تاريخ إثيوبيا لأنها الوحيدة التى لم تقع فى يد المحتل خلال القرن التاسع عشر وحافظت على سيادتها، وذلك بعد أن هزم الإمبراطور منليك الثانى القوات الإيطالية عام 1896 (حتى وإن عاود موسولينى الكرة واحتل إثيوبيا عام 1935)، ورسم الإمبراطور بنفسه العلم الجديد لبلاده الذى حمل الألوان الثلاثة: الأحمر والأصفر والأخضر، واعتمده رسميا فى العام التالى مباشرة أى 1897. ثم سارت على خطاه دول الجوار بعد حصولها على الاستقلال منذ خمسينيات القرن الفائت، وركزت على رمزية تلك الألوان، التى أصبحت ألوان القومية الإفريقية: الأحمر رمز الدماء الكثيرة التى سالت لتحرير الأوطان وتضحيات العبيد والشجاعة، الأصفر رمز التنوع الجغرافى وثروات القارة من الذهب التى جعلتها مطمعا للطامعين، والأخضر رمز الطبيعة الغنية والغابات والأمل.
• • •
الأمل الذى تصارع شعوب القارة ويعمل فنانوها من أجل الإبقاء عليه، رغم الفوضى العارمة وقرارات سادة الأرض والبشر المدمرة التى يبعثون بقطاع الطرق المجربين لتنفيذها. وهنا تحضرنا مجددا بعض لوحات شيرى سامبا بعناوينها الموحية والمستمدة من الواقع: «تدمير العالم على يد الإنسان»، «الدول المنحازة»، «كل بدوره»،... ونحن نشاهد التليفزيون وننتظر من عليه الدور، وحتى الذين لا يرغبون فى التعاطى مع السياسة ويهربون منها يصيبهم الدور، ففى الأدغال الإفريقية أسود شرهة لا تتوقف عن إصدار الأوامر.
التعليقات