أنا قبطان أعالى البحار - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 10:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أنا قبطان أعالى البحار

نشر فى : السبت 26 مارس 2022 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 26 مارس 2022 - 8:15 م

حلم التخلى عن المدن والعيش فى جزيرة أو مكان منعزل بمواصفات وقواعد مختلفة يراود الكثيرين، لكنهم قد لا يجرؤون على تنفيذه. بطلا شريطين تسجيليين طويلين عُرِضا أخيرا فى مهرجان الإسماعيلية الدولى للأفلام الوثائقية والقصيرة نجحا فى ذلك لسنوات، تمردا على الحياة التقليدية وجعلا البعض منا يريد أن يحذو حذوهما. الفيلمان هما «البحار» (The sailor) للسلوفاكية لوشيا كاسوفا الذى حصل على تنويه خاص من لجنة تحكيم الاتحاد الدولى للنقاد، و«البحث عن الأحصنة» (Looking for horses) للبوسنى ستيفان بافلوفيتش الذى نال جائزة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية.
العمل الأول يرسم صورة مفعمة بالمشاعر لبحار شهير رحل عن عالمنا فى يونيو الماضى، قبل أن يحصد الفيلم العديد من الجوائز، وهو بول جونسون، الذى ولد عام 1938 فى جنوب بريطانيا، وبدأت مغامراته وهو فى سن السادسة عشرة، إذ عبر وحدة المحيط الأطلسى أربعين مرة. كان أيضا صانع سفن ذائع الصيت، حصد ثروة معقولة، من خلال تصميمه لمراكب وقوارب صغيرة وقوية فى أن تستطيع اجتياز المهام الشاقة. احتفل بعيده الثمانين خلال تصوير الفيلم الذى استمر ستة أسابيع فقط، فى حين يشعر المشاهد أن المخرجة والبحار يعرفان بعضهما البعض من زمن بعيد، نظرا لتدفق الأحاسيس وطبيعية الكاميرا التى تصوره وهو نائم، وهو يمازح أصحابه من جزيرة كارياكو فى الكاريبى حيث يعيش، وهو يحاسب نفسه على ما مضى ويتحدث عن أدق أمور حياته ويشرب زجاجة فودكا ويبكى أحيانا. تلتقط الكاميرا تجاعيد وجهه وملامح جسمه الواهن وعينيه الزرقاوين اللتين خف بريقهما، وتطايُر شعره الأبيض المتموج الذى كان يوما أشقر اللون.
يحكى عن علاقاته النسائية وزوجاته اللائى أردن حياة أكثر استقرارا لأبنائهن، ولم يستطعن مجاراة نمط حياته لأكثر من عشر سنوات، وعن الجزر التى زارها ومنها سانت بارتس التى عاش فيها وحيدا فى الستينيات ثم تحولت إلى مقصد لأثرياء العالم، وعن تصميماته التى صارت متاحة على الإنترنت يتداولها الناس دون الرجوع إليه أو دفع حقوق الملكية الخاصة به. يكشف البحار العجوز عن وحدته وعن تساؤلاته حول حدود الحرية والأنانية والفارق بينهما، وهى من أعمق لحظات الفيلم.
• • •
مشاعر مختلطة كثيرة نتشاركها معه ومع المخرجة المقيمة حاليا فى الكاريبى هى الأخرى والتى تعرفت هناك على مجموعة ممن يُطلق عليهم «غجر البحار» الذين مزقوا هوياتهم واتخذوا من المحيط موطنا لهم. ربما مهدت لقطيعتهم مع المدن ومع الحيوات السابقة ظروف شخصية أو انفصال أو حادثة معينة جعلتهم يسرعون فى اتخاذ القرار والفرار إلى الطبيعة، سعيا وراء استرجاع الذات أو معان أخرى مفقودة. جنحوا إلى السلم، إلى نمط أبسط من العيش، بعيدا عن المجتمع الاستهلاكى، لذا المشترك بين بطلى الفيلمين الفائزين بجوائز مهرجان الإسماعيلية هو ذلك السحر الآتى من بعيد.. من بلاد الصدق والوضوح والتلقائية، بل والشاعرية فى أوقات كثيرة.
بطل الفيلم الثانى «البحث عن الأحصنة» شارك فى حرب البوسنة والهرسك خلال تسعينيات القرن الماضى، فَقَدَ سمعه بسبب قنبلة، ما أثر على قدرته على التواصل مع الآخرين. يقول إنه لا يمكن لأحد أيا كان الخروج من الحرب كما دخلها «هناك نسبة خسارة لا تقل عن عشرة فى المائة، ويختلف الأمر من شخص إلى آخر». يتحول الإنسان فى لحظة إلى قاتل، ولا يمكن للجميع تقبل الفكرة والتعامل معها بهدوء واتزان. بعد عودته من الحرب، زهد العيش فى المدن وارتحل للحياة فى عزلة والصيد على شاطئ البحيرة. تقابل بمحض المصادفة مع مخرج الفيلم الشاب الذى يعانى من عيوب فى النطق أو بالأحرى تهتهة فى الكلام، أيضا بسبب الحرب، إذ لجأ أهله إلى عدة دول وهو صغير منها هولندا وكندا، وبالتالى وجد صعوبة فى التنقل بين لغات مختلفة فى فترة قصيرة.
• • •
الصمم والتلعثم فى الكلام لم يحبطا صداقة المخرج والصياد، بل نسج الفيلم برقة وببطء علاقة عميقة بينهما وفى منتهى الإنسانية، تبادلا سويا ما لحق بهما من أذى ومشاعرهما الحالية. المخرج جاء إلى هذه المنطقة المعزولة لزيارة جدته والتعرف على أصوله، وكانت الفرصة الذهبية لخوض تجربة فريدة من نوعها مع الصياد المحمل بالآلام. نرتبط به كما ارتبطنا ببول جونسون، بطل الفيلم الأول، على اختلافهما الشديد، نحسدهما فى مكان ما على شجاعة الرجوع إلى الطبيعة والعيش بحرية.
وجود المياه فى الخلفية معظم الوقت يعطى تدفقا للسرد، راحة وسلاسة.. لسنا فى عجلة من أمرنا، بل يمكننا أن نتمهل ونتوقف لدى اختياراتهما، هما لم يفرضا على أحد أن يعيش كما أرادا، ودفعا ثمن الحرية، كلا منهما بقى وحيدا مع قاربه. ولكى تستمتع بهذين الفيلمين، يجب أن تأخذ كل ذلك بعين الاعتبار وتدخل فى الإيقاع وتنغمس فى التجربة. لا تقف على الشاطئ، بل حاول تذوق حياة أرحب، قد تحمل اسما من أسماء قوارب جونسون الشهيرة «قمر»، «فينوس»، «نَفس»، وإلا ستظل متشنجا فى موضعك، تنظر إلى الساعة وكأنك أقمت هناك برهة من الدهر.

التعليقات