الأدب ومهمة البحث عن الجزر المفقودة - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 9:41 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأدب ومهمة البحث عن الجزر المفقودة

نشر فى : السبت 26 فبراير 2022 - 9:25 م | آخر تحديث : السبت 26 فبراير 2022 - 9:25 م

 

فى هذا الجو الأوروبى المشحون، تشهد مدينة نانت، غرب فرنسا، مهرجانها الأدبى السنوى الذى يحتفل هذا العام بدورته العاشرة. وهو يحمل اسم «أتلانتيد» أو جزيرة أطلانتس الأسطورية المفقودة التى تحدث عنها الكاتب الراحل جول فيرن، ابن المدينة، فى كتابه «عشرون ألف فرسخ تحت الماء». فكرة المهرجان تقوم على الخروج بالأدب من الأطر التقليدية وربطه ليس فقط بالأماكن المختلفة للمدينة ولكن أيضا بالقضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة والأحداث الجارية. وبالتالى هو ينتهز فرصة وجود 50 مدعوا من أكثر من 20 بلدا لكى يطرح بصحبتهم أسئلة متعددة لمدة أربعة أيام (24 ــ 27 فبراير)، من بينها: ما الذى يجرى فى شرق أوروبا؟ ما انعكاسات الهجرة والحياة فى المنفى على الإبداع؟ ما تأثير السياسات الاستعمارية ثم الاستقلال على الكتابة، خاصة فى أفريقيا؟ كيف يمكننا أن نروى ما يحدث أدبيا؟ ما الذى سنقوله عن تفكك القارة العجوز والعنف الذى يسود العالم؟ النقاشات واللقاءات مع الكتاب قد تجرى فى محطة القطار أو الترام أو أحد قصور نهر اللوار، وقد تمتزج أحيانا بعرض مسرحى راقص أو تقديم فيلم مناسب للموضوع المطروح أو حفل موسيقى، فالمدينة التى يصل عدد سكانها إلى 650 ألف نسمة تحوى 36 مسرحا و13 متحفا، إلى جانب المكتبات العامة والخاصة المشاركة فى المهرجان.
• • •
الكلمة الافتتاحية هذا العام كانت للكاتب السنغالى الأصل محمد مبوغار صار الذى ولد فى داكار سنة 1990 وحصد أخيرا جائزة جونكور، المعنية بالأدب المكتوب بالفرنسية، عن روايته الرابعة «أكثر مذكرات الرجال سرية». توقيت الحصول على هذه الجائزة المرموقة فى نوفمبر الماضى، ثم حاليا توقيت انعقاد المهرجان فى خضم الأحداث وقبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية المرتقبة فى شهر أبريل، مناسبان تماما لمناقشة صراع الهويات القائم، خاصة أن مبوغار صار يطرح ضمن ما يطرح فى أعماله العلاقة الشائكة بين أفريقيا وأوروبا أو الغرب عامة. ينتقل بنا فى روايته الأخيرة بين السنغال وباريس وأمستردام وبيونس آيرس، من خلال قصة كاتب سنغالى شاب يكتشف بطريق المصادفة عملا أدبيا لكاتب سنغالى غامض يرجع تاريخه لثلاثينيات القرن الماضى، وهو «متاهة اللاإنسانية». يصف مبوغار صار، الذى ينتمى لعائلة ميسورة الحال وأكمل تعليمه الجامعى بفرنسا، كيف ساعده الأدب على الإبحار بين شاطئين وثقافتين، فقد كان هو الطريق الشاعرى الثالث الذى اختاره لنفسه لكى يحقق توازنه الشخصى، لذا هو لا يتحدث أبدا عن أفريقيا والغرب بصيغة المواجهة، بل يفضل أن ينطلق دوما من الشعور بالاغتراب كى لا يكون مصابا بالفصام على حد تعبيره، فهو من اختار العيش طواعية فى باريس.
• • •
هذه العلاقة المركبة التى تربط بين فرنسا وبين الكتاب الفرنكفونيين جاءت دون شك كنتيجة لسياسات الاستيعاب الثقافى واللغوى المطبقة فى مدارس المستعمرات السابقة، إذ صارت اللغة الفرنسية كما يقول عنها الأديب الجزائرى كاتب ياسين «غنيمة الحرب التى حظينا بها». المعنى نفسه يؤكد عليه بشكل مختلف كاتب آخر من أصول أفريقية وهو المدير الفنى للمهرجان والشاعر والأديب والناشر والأكاديمى البارز، آلان مابانكو، الذى ولد فى الكونغو عام 1966، وانتقل للعيش فى فرنسا وهو فى الثانية والعشرين من عمره، ومنذ حوالى خمسة عشر عاما وهو شبه مقيم فى كاليفورنيا حيث يُدرس الأدب الفرانكفونى بالجامعة. يرفض هذا الأخير أن يظل الكاتب ذو الأصول الأفريقية محصورا فى لون بشرته، أن يقع فى فخ المواجهة البدائية بين حضارتين وثقافتين، لكنه فى الوقت ذاته يصرح دوما أنه لا يمكن أن يكتب دون أن يلامس موضوعه الكونغو أو أن تكون مسرحا للأحداث. يُشبه نفسه بجابرييل جارسيا ماركيز، قائلا: «هل يمكن أن ننتزع بلده كولومبيا من أعماله وألا تظل ماثلة فى كل رواياته؟».
آلان مابانكو، دينامو مهرجان «أتلانتيد»، بدأ فى نشر أعماله بعد ثلاث سنوات من وصوله إلى فرنسا وحصل على جائزة «رونودوا» الأدبية لعام 2006 عن روايته «مذكرات القنفذ»، المليئة بالحكايات والأساطير الغرائبية على الطريقة الأفريقية، ومن بعدها كتب «غدا سيكون عمرى عشرين» حيث يروى الأحداث السياسية والاجتماعية وصعود اليسار فى الكونغو أثناء السبعينيات والثمانينيات، من خلال عينى طفل فى العاشرة تماثل حياته حياة الكاتب إلى حد كبير. أما كتابه الأخير، الذى صدر فى مارس 2021، فهو يتناول كاليفورنيا التى يعرفها، مرة أخرى نرى البلاد بعيونه، عيون الأستاذ الجامعى الذى يخالط كل الأوساط، يصف ثراء مدينة سانتا مونيكا الساحلية وأوضاع الأقليات فى لوس أنجلوس وبؤس التجمعات السكانية على أطراف المدينة وحماسة الناس الذين احتفظوا بداخلهم بالحلم الأمريكى، أماكن غريبة يحبها، عالم العصابات والسياسة والانتخابات... أى أمريكا بصورة مغايرة عن المعتاد لذا فعنوان الكتاب «شائعات من أمريكا»، ويمكن تفسيره أيضا كأصداء من بلاد بعيدة.
من المؤسف بالطبع أن مؤلفاته مترجمة إلى لغات عدة ليس من بينها العربية، وأنه رغم وجودنا فى أفريقيا إلا أننا لم نتابع مواقفه الرافضة للمفاهيم الكولونيالية التى ارتبطت بالسياسات الفرانكفونية الرسمية، وقد وجه خطابا مفتوحا للرئيس ماكرون بهذا الصدد قبل أربع سنوات. أما من خلال مهرجانه الأدبى الحالى فقد أراد أن يوجه رسالة ضد الأشكال المختلفة للرقابة والمنع، بتنظيم أمسية خاصة يشارك فيها الكُتاب بقراءات لنصوص ممنوعة حول العالم، وقد أهدى هذه الليلة لذكرى المحامية والناشطة الحقوقية السورية رزان زيتونة المختفية قسريا منذ نهاية 2013. كل هذه التفاصيل تجعل المهرجان حدثا استثنائيا يذكر بضرورة ألا يكون الأدب حبيس الأسوار والأبراج العاجية والمصالح السياسية الضيقة.

التعليقات