قَامُوسُ الفُقَرَاء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 2:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قَامُوسُ الفُقَرَاء

نشر فى : الجمعة 26 يناير 2024 - 10:40 م | آخر تحديث : الجمعة 26 يناير 2024 - 10:40 م
لم يَكُن مَرجِع ذاك المَظهرِ الباهتِ اللامُبالي إلى شيءٍ مِن الزُّهد وعدم الاكتراث؛ بل مُحاولة لتوجيه المَوارد التي صارت بين يومٍ وليلة فقيرةً ضئيلةً؛ نحو الضَّرورات التي لا مَناص مِن توفيرها. بَدَت السيِّدةُ التي كانت فيما مَضى مُعتنيةً بهيئتها، مُهتمَّةً بملبَسها؛ على غير ما اعتدنا منها؛ وإذ سُئِلت عما بها، لم تجد بدًا من الإفصاح عن السَّبب الحقيقيّ؛ فالعثرةُ الماديَّةُ قد أصابتها بالكربِ، وغشى أحوالَها ضيقُ ذاتِ اليد.
• • •
تَقول قواميسُ الُّلغة العربيَّة أن الرَّجل إذا فَقُرَ فقد ذهب مالُه، وإذا فَقَرَ الواحد ساقَه فقد كَسَرها، أما إذا فَقَرته مُصيبةٌ؛ فالقصد أنه تعرَّض إلى نازلةٍ شديدة.

الفاقةُ والعَوَز والحاجة؛ كلماتٌ تُدلل على درجاتٍ مُتباينة من النَقْصِ؛ لكنها لا تُستَخدَم في الإشارة لغيرِ المادَّة، على عكسِ الفَقر الذي قد يُشير إلى نواقصٍ أخرى كثيرة؛ فهناك فقرُ الأفكار الذي يعانيه المَجبولون على تنحيَّة عقولهم وإطاعة الأوامر، وفقرُ الإبداع الذي تُعانيه المُجتمعات الغارقة في برك الضَّحالة والحُمق.
• • •
ليس بالضرورةِ أن يكون الفقيرُ نحيلًا ضئيلَ البِنية، ولا أن يُحقّقَ الصورةَ الذِهنيَّة التي تَحضُر معظمَنا عن الفقر؛ فالجسد المُبتلى بأعراضه وأمراضه قد يبدو سمينًا منتفخًا، يدفع الجاهلُ بحاله إلى إبداءِ التَعجُّب والامتعاض، ولقد بات عديد الناسِ مُجبرًا على اتباعِ نمطٍ غذائيٍّ يتوخَّى الشَّبعَ ويتركُ أسبابَ الصِحَّة لمَن يَملِك ثمنَها.
• • •
يُشير مُصطلح "اقتصادُ الفَقر" إلى تلك التَصريفات التي يقوم بها الأشخاصُ مُتواضعو الحال في سَبيل توفير نفقاتِهم وسَدّ حاجاتهم؛ فمِن وَجَبَاتٍ تملأ المَعِدة وتنقلُ للمُخّ إحساسَ الشَّبع دون أن تكونَ مُفيدة، إلى ملابس يُعاد تدويرها لتبدو في أعين الآخرين كالجديدة. اقتنيت منذ أعوام كتابًا يحملُ العنوان الاصطلاحيّ ذاته، وأنهيت قراءته خلال فترةٍ وَجيزة واضعةً خطوطًا كثيرة داخل صَفحاته. عدت إليه مرَّات ومرَّات، ثم نسيته تمامًا؛ وإذا به يقفزُ إلى ذهني في الآونة الأخيرة ولا يُفارقه، والدافع غير خافٍ؛ فالواقع يَستدعي ما يرتبطُ به وما يُفسره ويُضيف إليه.
• • •
في عَالمٍ شاعريّ حالم، يُقال إن فقرَ النُّفوسِ وخواءَها أسوأ من فَقر الجُّيوبِ وإجدابها، ولا تنفكُّ أبياتُ الشُّعراءِ وقصائدهم تؤكد أن الفقيرَ سعيدٌ هادئ البال، وأن الغنيَّ تعسٌ قَلِقٌ لا يَغمض له جَفنٌ؛ والحقُّ أن هذا وذاك مَحضُ وسيلة لتسكين الألمِ وتخفيفِ العَرَض، لكنها لا تقضي على أًصلِ المَرض ولا تعالجُه؛ فالحاجةُ مُزعجةٌ، واختزالُ أمنياتِ المَرءِ في حصولِه على الحدّ الأدنى من مُتطلباتِ الحياة، لا يكون في العادة من المُفرِحات.
• • •
تهاوت الطبقةُ المُتوسطةُ وخَطت بأقدامِها عتباتِ الفَقر، ثم قَفزت منها وهَبطت نحو طبقةٍ أدنى، وفي هبوطها السَّريع راحت تتشبَّث بما تصادفه أياديها؛ مظاهر كاذبة وسُلوكيَّات مُصطنَعة ومُبالغات تبدو في كثير الأحيان مُبكيَةً مُضحِكة، وغالب الظنّ أن هذه الطبقة المنكوبة تدرك ما ينتظرها، وتُحاوِل أن تقتنصَ لحظاتِ البهجَةِ عنوة قبل أن تستقرَّ في مُستنقَع الحَاجةِ والمَذلَّة.
• • •
إذ يعلن المَثَلُ الشعبيُّ الأصيل أن العينَ بَصيرةٌ واليَدَّ قصيرة؛ فإنه لا ينظر القادمَ ولا يَمدُّ الخطوطَ على استقامتها.

• • •
السلف والدين من شيم من لا يتمكن من الوفاءِ بمُتطلباتِ الحياة، وإذا قَصَد الشَّخصُ المزنوقُ صديقًا أو زميلًا سانده وأعطاه؛ كان الردُّ بالدعاءِ المألوف: ربّنا ما يحوجك لحد، والقصد ألا يجد المانح نفسَه في مَوقِف شَبيه، فالسؤالُ مَذلة وإن قُوبِل بالرَّفض أمسى مَهانةً لا تُنسى.
• • •
الفَقَري في أحاديثنا العاميَّة هو صاحب الحظّ السيّء الذي لا ينصلح بمُرور الوقتِ أو يزول. كلما انخرطَ في عملٍ فشل، وكلما حاول تلافي عَقَبة وقع في أخرى؛ لا يَمضي في مَسيره إلى مُصادفةٍ حَسَنة ولا يَجد ما يُعوض إخفاقاتِه المتوالية. يبدو الأمر خاضعًا لاعتقاد الفرد؛ فمَن آمن بسوءِ طالعِه وَجدَه أمامه، ومَن ظنَّ في النجاح وإن لم يملِك كاملَ شروطِه؛ لقيَ ولو جُزءًا مِنه.
• • •
يُشير فَقرُ الدَم إلى عِلةٍ تتناقصُ فيها نسبةُ الحديد التي تحمِلُها الكراتُ الحمراء؛ لكن التعبيرَ يُستخدَم أيضًا كمجازٍ يكني كلَّ صفيقٍ وقح، يصنع الخطأ ولا يَهتم. تندفقُ الدماءُ إلى الوَجه فتصنع علاماتِ الشُّعور بالسوء، كما ترفع حرارةَ الجزء الذي تُضَخُّ إليه؛ فإن شحَّت لاح المرءُ باردًا فقيرَ الحِسّ.
• • •
يُقال إن دخلَ الفقرُ من البابِ هَرب الحبُّ من الشباك، والقصد إثبات ما للفَقرِ مِن أثرٍ عَنيف على أنبلِ المَشاعر وأرقاها، فالاحتياج الذي يُلقي بظلالِه القاسِية على الحياة ويَغشى تفاصيلها ويُحيل دقائقَها وأيامَها إلى مُعاناةٍ مُتواصلة؛ لكفيل بتقويض ما استقرَّ في القلبِ من شَغف وربما موَدَّة، ولإن تقلَّصت الأحشاءُ جُوعًا تأوهت النفوس وأنَّت.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات