فَــــشَّ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 8:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فَــــشَّ

نشر فى : الجمعة 25 أغسطس 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : الجمعة 25 أغسطس 2023 - 8:00 م
سألت ذات يوم صديقةً أن تؤجلَ موعدَ تمرينِها الصباحيّ للقاءٍ جماعيّ خفيف، فاعتذرت بأنها لا تستطيع. قالت إن التمرينَ ضرورةٌ لا تستغنى عنها؛ إذ تفشُّ فيه ما يُنغِّص عليها حياتَها وما يُوترها ويجعلها في قلقٍ دائم.
• • •
أعرف من لا يُطقن صبرًا على ارتياد صالاتِ الإحماء بصِفةٍ يَومية، يُمارسن الألعابَ المُختلفة بانتظام، ويواظِبن على الرَّكضِ وحَمل الأوزان؛ فإن انقضى النهار ولم تسمح الظروفُ بمُمارسة هذا الطقس؛ تبدَّلت أحوالهن وتعكَّرت أمزجتُهن وصِرن في حالٍ من الضيق. الثابتُ أن الموادَ الكيميائية التي يفرزها المخُّ عند مُزاولة المَجهود البدنيّ؛ تُحسن من قدرةِ المَرء على التعامُل مع أزماتِه وتورثه شعورًا بالراحة. لا شكَّ أن الرياضةَ بأنواعها تعينُ على فشِّ المشاعر السَّلبيةِ وإخراجِها؛ لكنها أيضًا لا تعالج الأسبابَ ولا تطرقُ مَواطنَ العلَّة لتزيلَها. هي مداواةٌ للعَرَض وتجنُّب لأصلِ المرض.
• • •
يأتي الفعلُ فشَّ في قواميس اللغةِ العربيةِ بمعنى نفخ نفخًا هينًا وكذلك بمعنى تجشَّأ، وإذا قيل فشَّ فلان الكرة؛ فالمقصود أنه أخرجَ ما فيها من هواء، أما إذا فشَّ القفلَ علانٌ؛ فقد فضَّه أو فتحه دون استخدام المفتاح. الفاعلُ فاشٌ والمفعولُ به مَفشوش، وإذا فشَّ الواحد غيظَه؛ كان المعنى أنه نَفَّسَ عنه وفرغه.
• • •
يُمكن للمُتدربين على اليوجا وطقوسِ التأمُّل والاسترخاء أن يتحكموا في مشاعرهم، وأن يعيدوا توجيهَها إلى حدٍ بعيد، وبوجه عام؛ ثمَّة طُرقٌ مُتعددة بمقدورها أن تساعدَ على التخلُّص أولًا بأول من الضغوط النفسية، وفشّ مواردِ الغَضب وتخفيف حِدَّة الانفعال؛ لكن اللجوءَ إليها على الدوام قد يَحرمُ المرءَ من طاقةٍ تُعاونه في رد اعتداءٍ وقع على حقِّه أو في الدفاع عن ذاته. كلما تُرِكَت هذه الطاقةُ لتتراكمَ وتتعاظم؛ كلما كان خروجُها فاعلًا مؤثرًا، وكلما أُهدِرَت هباءً؛ كلما لانت عريكةُ الواحد وبردت حميتُه وتلاشت رغبتُه في الفعل.
• • •
إذا تورَّمت الأقدامُ لسببٍ من الأسباب، ثم زالت علَّتها وعادت إلى حجمِها الطبيعيّ؛ قيل إنها قد فشَّت. أسبابُ التورمِ كثيرةٌ ينتقي من بينها الطبيبُ تبعًا للمُعطياتِ التي يراها ويلمَسها ويختبرها، واعتمادًا على الفحوصاتِ المَعملية التي يطلبها. بعضُ المرَّات لا يكون المُسببُ واضحًا، أو قد يكون بسيطًا جليًا لا يتعدى وقوفًا طويلًا مَنزوعَ الراحة، تتطلبه مِهنةٌ لا مفرَّ من الالتزامِ بها ولا بدائل تعوضها.
• • •
هذا الذي لا يكفُّ عن الضَّحك لأهون الأمور؛ يُوصَف بأن فشَّته عائمة. الفِشَّةُ هي الرئةُ وسُميت على هذا كونها تفرغُ الهواءَ وتدفعه خارجها في عملية الزفير، أما عن الضَّحك فيقبضُ عضلاتِ الصدر والبطن ويبسطها بالتتابع؛ لتتمدَّدَ الرئةُ وتنكمشَ مع الحركةِ كما تصعد وتهبط، وربما تبدو حينذاك وكأنها تعوم، ومِن المُحتمل أن كثرةَ الضَّحك قد أدت لاستخدامِ هذا الوَصف؛ إن جازَ الاجتهاد.
• • •
قبل أن أدرس الطبّ، بقيت أسمع عن الفشَّة والكِرشَة زمنًا طويلًا دون أن أدركَ كنههما، ثم التقيت مَن يعشقون الأكلةَ التي ظلَّت غامضة على تصوُّراتي؛ كوني لا أقربُ اللحمَ على اختلافِ أنواعه ولا أستسيغه. عرفت لاحقًا ما غمضَ عليّ وتيقنت من طبيعة الطبق الذي يحظى بإقبال كثيرين؛ فتأكَّدَت المسافةُ التي تبعدني عنه، وتبقَّى ذاك السَّجع الذي تحظى به الكلمتان المُتزاملتان، والذي طالما ترك في أذنيّ إحساسًا بالطرافة.
• • •
إذا كان النفخُ بالفم علامةَ تحذير واضحة؛ فقد لا تكون كافيةً بعض المرات لفشّ الغليل وتفريجه؛ وإذ يفقد المرءُ أعصابَه إزاء مَوقفٍ ما؛ يُمسك بأقرب ما تصلُ إليه يداه، ويرميه ليصطدمَ بحائطٍ أو يقعَ على الأرضِ ويتهشم. يُحدِث الصَّوت في الرامي أثرًا لا يُنكَر فيُهدئ من الفوران، وكذلك تفعل الأجزاء المُفتتة المَنثورة؛ وإذ تخمد الثورةُ قليلًا ويعود الثائر إلى رشدِه، يُدرك حجمَ الخسارة التي مُنيَ بها، وغالبًا ما ينتقلُ إلى مرحلة الندم.
• • •
على كل حال، إذا فشَّ المرءُ ما يُكرِبه في غير محلّه تعرَّض لخسائر مُضاعَفة؛ فثمَّة مَن يُصاب بالشظايا وهو بريء مِن سببها، وثمَّة من ينجو بفعلته وهو مُدان بها. اعتدنا أن نُخرِجَ قرفنا وضيقنا ونفشُّهما في وجه من نأمن جانبَه، ومن نعرف أنه لن يحملَ لنا ضغينة، وأنه قادرٌ على المُسامحة والتغاضي عن حمقنا. اعتاد كثيرنا أيضًا أن يفشَّ ما ينوء به كاهلُه من خُطوب في وجه الأضعفِ منه، أو فيمن لن يتمكَّن من مواجهته ندًا لند ومُبادلته الاعتداء، والحقُّ أن هذا المسلكَ ليس إلا صورةً مألوفةً من صور الهَرم التراتبيّ الشهير؛ الذي يقهر فيه الواحد مَن يقف على درجةٍ أدنى منه، ويغضُّ بصرَه عمن يعلوه ويذيقه صنوفَ الهوان. لا يحاول المَقهور أن يُدير رأسَه إلى القاهرِ ليُعاتبَه، أو ليُوجه إليه الصَّفعةَ المُستحقَّة، ويفشُّ كمده في محلِّه.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات