«ليلة سقوط غرناطة» ما أشبه الليلة بالبارحة! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«ليلة سقوط غرناطة» ما أشبه الليلة بالبارحة!

نشر فى : السبت 23 ديسمبر 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 23 ديسمبر 2023 - 8:00 م
ــ 1 ــ
قبل سبع سنوات تقريبا أصدرت سلسلة (آفاق السينما) التى تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة كتابا بعنوان «ليلة سقوط غرناطة» مذيلا بتوقيع الكاتب الكبير الراحل محفوظ عبدالرحمن، ولا أعلم لماذا تذكرته الآن، ولماذا اتجهت إلى المكتبة وأستخرج هذه النسخة وأشرع فى قراءتها. لا أعلم!
فقط وجدتنى أمام سيناريو المسلسل الدرامى التاريخى «ليلة سقوط غرناطة» للكاتب الراحل الكبير محفوظ عبدالرحمن، صاحب أشهر وأجمل الأعمال الدرامية التى ارتبط بها وجدان المشاهد المصرى، مثل: «بوابة الحلوانى»، «أم كلثوم»، «ناصر 56».. وغيرها من الأعمال التى تعلق بها جمهوره فى مصر وأرجاء العالم العربى.
لم أتوقع أكثر من قراءة نص «سيناريو حوار» جميل وممتع لواحد من عمد الدراما العربية المعاصرة وصناعها الكبار، هكذا ظننت. لكن الأمر تجاوز السقف المتوقع، فلم يقتصر الأمر على قراءة نص بديع، جميل، نص عميق يثير الأسى والشجن، ويفجر أطنانا من مرارات الهزيمة، والإحساس المزمن بالانهزام والضياع، بل انفتحت أمامى فجأة صفحة ناصعة و«حزينة» من تاريخ الدراما العربية، وقت أن كان يكتب لها السيناريو والحوار كاتب كبير بحجم محفوظ عبدالرحمن، ويخرجها واحد من أصحاب التاريخ المشرف مثل عباس الأرناؤوط، وحدث ولا حرج عن نجوم الدراما وعمالقة التمثيل (ممن) لم تشهد الشاشة الفضية من يماثلهم موهبة وإبداعا وعبقرية فى فن التشخيص والأداء.
ــ 2 ــ
سيناريو رائع، مكتوب بحرفية عالية، ويقدم قراءة حزينة ومريرة غاية المرارة للحظات الأخيرة فى عمر مدينة غرناطة قبل سقوطها فى يد الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا.. لكن الأهم هو ما تشير إليه استدعاء هذه اللحظة التاريخية «العصيبة» بكل التباساتها وحمولاتها التاريخية والسياسية والثقافية، لحظة تكالبت فيها الخيانة والمؤامرة والمكائد والدسائس، واستثمار الفرقة التى لا تزول بين العرب أحسن استثمار.
عرض المسلسل للمرة الأولى فى عام 1979، وتم إنتاجه فى (استديوهات عجمان) التى أخرجت عددا من أروع المسلسلات التليفزيونية فى تاريخ الدراما العربية، فى تلك الفترة، وكان يقع فى ثلاث عشرة حلقة، تدور أحداثها كلها فى ليلة واحدة فقط، تعرض لوقائع اللحظات الأخيرة قبل تسليم المدينة، ودخول الإسبان غرناطة، إعلانا رسميا بانتهاء أى وجود للعرب والمسلمين فى شبه الجزيرة الإيبيرية.
ــ 3 ــ
تبدأ الأحداث فى اليوم الأول من يناير لسنة 1492، وتنتهى فى صباح اليوم التالى، وخلال هذه الساعات العصيبة يستعرض المسلسل ما دار فى أروقة القصور وحجراتها المغلقة والناس نيام، وما دبر من اتفاقات وتنازلات مخزية لتسليم المدينة، كان أمر المعاهدة السرية بين أبى عبدالله محمد الصغير (آخر أمراء غرناطة) والملكين الكاثوليكيين قد افتضح. سلمهم الملك الصغير مفاتيح قصر الحمراء، فكافأوه بثلاثين ألف قطعة من الذهب القشتالى (وقيل من الفضة!) مع صون حقه الأبدى فى ملكية قصوره وضياعه وممتلكات أهل بيته!
عاش أهل القصر ليلتهم الثقيلة، طويلة وحزينة، تثقلهم مرارة اكتشاف أنهم بيعوا كقطيع أبقار أو غنم، تقول عائشة أم الأمير لابنها الذى سلم غرناطة «حق لك أن تبكى كالنساء على ملك لم تصنه كالرجال»..
هذه أم أمير غرناطة تخاطب ابنها الذى بكى ملكه الضائع ليلة سقوط غرناطة، كل ذلك فى الوقت الذى ظهرت فيه بوادر حركة «احتجاجية» يائسة بقيادة أبى عبدالله الكبير، و«غسان الغسانى» قائد الحرس (قام بدوره العملاق عبدالله غيث)، تحاول إيقاف عجلة الزمن، وتحافظ على سراب البقاء، لكن التاريخ لا يرحم!
ــ 4 ــ
يقول محفوظ عبدالرحمن فى مقدمته لنص السيناريو «فى عام 1979 كنا نعيش فى غيبوبة، كنا نحس أننا فقدنا حلم العدالة الاجتماعية، وبناء الدولة على أساس حضارى، وكنا قد فقدنا حلم القومية العربية، ورأينا التسلط الإسرائيلى فى أعلى مظاهره الفاشية. وهرب الناس إلى أحلامهم الخاصة، وكانت الأغلبية مع الرغبة فى الثراء والوصول بأى طريقة».
اختار المؤلف بذكاء شديد وحساسية عالية لحظة تاريخية مؤسية، شديدة الخطورة وبالغة الدلالة ليجسد من خلالها أزمة الإنسان العربى عبر العصور (أو أزمة الضمير العربى إذا شئنا الدقة)، ولم يكن تخير لحظة سقوط غرناطة فى أيدى الملكين الإسبانيين، فرديناند وإيزابيلا، إلا مجازا وقناعا لمآلات الحاضر الأليم والأحلام المجهضة التى انهارت، وسقطت بفعل الخيانات المتراكمة والتنازلات المتتابعة، وغياب الرؤية الكلية والقدرة على قراءة الواقع والمستقبل معا، فضلا على الجهل الفاضح بالتاريخ ودروسه!
فنيا، فإن أهم ما ميز هذا العمل هو المساحة الأدائية الرائعة التى وفرها المخرج الأردنى عباس أرناؤوط للممثلين الكبار كى يحققوا حضورا مدهشا للأداء التمثيلى فى دراما تلفزيونية عربية، وهو ما تناولته الصحف العربية حينها باهتمام، ووقفت أمام مبارزات أدائية بين توفيق الدقن وعبدالله غيث كانت تنتصر لكلا الفنانين، ويتميز عبدالله غيث الذى غيبه الموت فى قمة عطائه، أنه قدم سلسلة طويلة من الأعمال التاريخية المتميزة التى تحاكى الحقبة التاريخية ذاتها، ومنها «موسى بن نصير»، و«ثعلب الأندلس».
ــ 5 ــ
ولعل أيضا مما ميز «ليلة سقوط غرناطة» أن مجمل أحداثه تتكثف فى ساعات الليلة الأخيرة لهذه المملكة الجميلة التى كانت فى وقت من الأوقات محجة العرب والأوروبيين إلى الأندلس،
وربما تزامنا مع واقع سياسى ردىء فى تفاصيله اليومية آنذاك، شاغب عبدالرحمن الطبقات السياسية الحاكمة فى تناحرهم وتدميرهم لبعضهم البعض، بما جرى من وقائع مأساوية فى ليلة سقوط غرناطة التى شهدت بدورها سقوط الحضارة الإسلامية فى بلاد فتحها العرب المسلمون، وبنوا فيها حضارة كبيرة، ونتيجة التناحر الذى جرى بين حكام الممالك الأندلسية ضعف بنيان الدولة، وصارت البلاد لقمة سائغة بيد الإسبان الذين احتفوا باستعادة إمبراطوريتهم.