لا شىء يعجبنى - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 11:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا شىء يعجبنى

نشر فى : السبت 23 سبتمبر 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 23 سبتمبر 2023 - 8:50 م
عنوان المقال هو قصيدة شهيرة للشاعر الباقى محمود درويش طافت أرجاء الأرض لتعبر عن سأم شخصى وعام. عبقرية الجملة تكمن فى بساطتها المعهودة التى تجعلها تمر ببالنا فى لحظات معينة، نجد أنفسنا نرددها ويرددها معنا كثيرون كلما نشعر أنه علينا استبدال الكوكب. انقضت خمسة عشر عاما على رحيل درويش، وتسعة عشر عاما على صدور ديوان «لا تعتذر عما فعلت» الذى ضم القصيدة، وثلاثون عاما على توقيع اتفاق أوسلو، وما زال لا شىء يعجبنا، بل ازدادت عبثية الموقف وصرنا نشبه ركاب الحافلة الذين وصفهم قائلا: «لا شىء يعجبنى. يقول مسافر فى الباص ــ لا الراديو ولا صحف الصباح، ولا القلاع على التلال. أريد أن أبكى/ يقول السائق: انتظر الوصول إلى المحطة، وابكِ وحدك ما استطعت/ تقول سيدة: أنا أيضا. أنا لا شىء يعجبنى. دللت ابنى على قبرى، فأعجبه ونام، ولم يودعنى/ يقول الجامعى: ولا أنا، لا شىء يعجبنى. درست الأركيولوجيا دون أن أجد الهوية فى الحجارة، هل أنا حقا أنا؟/ ويقول جندى: أنا أيضا، أنا لا شىء يعجبنى. أحاصر دائما شبحا يحاصرنى/ يقول السائق العصبى: ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا للنزول.../ فيصرخون: نريد ما بعد المحطة، فانطلق! أما أنا فأقول: انزلنى هنا. أنا مثلهم لا شىء يعجبنى، ولكنى تعبت من السفر».
نشبه هؤلاء الأشخاص الذين لا يرتضون الواقع وينطقون بجمل شديدة التكثيف نسجها الشاعر بانضباط إيقاعى، وننتظر مثلهم انطلاقة جديدة أو مسارا مختلفا، ونندمج فى قصائد محمود درويش الذى كان دوما لسان حال العديد من المهزومين والمظلومين على هذه الأرض، خاصة حين يعى الإنسان العربى أنه يعيش مثل «الأطرش فى الزفة»، يضع يده على خده ويتربع أمام شاشة التليفزيون، والزعماء يوجهون التحية للضحايا والشهداء الأبرار.
• • •
أنغمِسُ فى قصيدة أخرى له «عن اللاشىء»، (من ديوان أثر الفراشة، 2008): «هو اللاشىء يأخذنا إلى اللاشىء، حدقنا إلى اللاشىء بحثا عن معانيه.. فجردنا من اللاشىء شىء يشبه اللاشىء، فاشتقنا إلى عبثية اللاشىء فهو أخف من شىء يشيئنا.. يحب العبد طاغية لأن مهابة اللاشىء فى صنم تؤلهه، ويكرهه إذا سقطت مهابته على شىء يراه العبد مرئيا وعاديا فيهوى العبد طاغية سواه يطل من لا شىء آخر.. هكذا يتناسل اللاشىء من لا شىء آخر.. ما هو اللاشىء هذا اليد المتجدد، المتعدد، المتجبر، المتكبر، اللزج، المهرج.. ما هو اللاشىء هذا. ربما هو وعكة روحية أو طاقة مكبوتة أو ربما هو ساخر متمرس فى وصف حالتنا!». كان الشاعر الراحل هو حقا ذلك الساخر المتمرس فى وصف حالتنا، يغرق أحيانا فى العبثية والعدمية ونغرق معه، فقد لازمه التوتر بين السياسى والشعرى منذ أن ولد فى قرية البروة بفلسطين، وقامت دولة إسرائيل وهو فى السابعة من عمره وتحول إلى لاجئ مثله مثل غيره من أبناء الأراضى المحتلة، رغم كل عمليات الشكوى والانتحاب والاحتجاج والمقاومة التى عمت المنطقة.
كان هو كاتب إعلان الاستقلال الفلسطينى عام 1988، وكذلك أهم خطابات ياسر عرفات أمام الأمم المتحدة عام 1974، لكنه استقال بعدها بسنوات من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورفض تأييد إعلان مبادئ أوسلو والانضمام للسلطة. وقد قيل إن قصيدته «أحد عشر كوكبا» المنشورة سنة 1992 تنبأت بأوسلو بصورة محزنة، واستخدم فيها درويش هزيمة العرب وخروجهم من إسبانيا عام 1492 للإشارة إلى المأزق الفلسطينى وقتها. يصف الكاتب والباحث العراقى البارز سنان أنطون، الذى ترجم درويش إلى الإنجليزية بعذوبة وبراعة، موقف الشاعر وتحفظاته على توجهات منظمة التحرير بصورة رمزية من خلال لجوئه إلى عناصر من الماضى العربى والإسلامى. يشرح أنطون فى ورقة بعنوان «النقد الرمزى لاتفاق أوسلو عند محمود درويش»، نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية فى عددها الواحد والخمسين، كيف أثرت التحولات السياسية فى شعره وكيف انعكست بشكل خاص على مجموعة «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» الصادرة سنة 1995، فضلا عن آخر قصائده المنشورة. كانت هذه المجموعة تحديدا نقطة محورية فى مسار محمود درويش، تحول بعدها أكثر إلى موضوعات السيرة الذاتية وغلبة الشخصى على العام التى انتقدها البعض.
• • •
استخدم شخصية الشاعر الملك امرؤ القيس من القرن السادس لكى يعبر عن رؤيته، خاصة فى قصيدة «خلاف، غير لغوى، مع امرئ القيس»، إذ كان هذا الأخير هو السياسى الفاشل الذى اختار الدرب المأساوى، ما أدى إلى موته هو وشعبه، فلدينا بين السطور شاعر ــ ملك يبحث عن مملكته المفقودة، بحسب سنان أنطون، يلجأ إلى قوة عظمى على أمل الحصول على دعم سياسى، لكن فى واقع الأمر لم تكن الطقوس الملكية والاحترام والهدايا التى حظى بها أكثر من إعداد لموته الوشيك. وعندما هجر امرؤ القيس ديار العرب من أجل أرض الروم، أصبح من الناحية الرمزية والسياسية عاريا وعاجزا عن الدفاع عن نفسه، صار مجردا من نسبه الملكى وهويته الموروثة والولاءات القبلية التى ترعى منصبه، إلى ما غير ذلك. يقول درويش فى قصيدته: «عندما أوصلونا إلى الفصل الأخير، التفتنا إلى الخلف: كان الدخان يطل من الوقت أبيض فوق الحدائق من بعدنا. والطواويس تنشر مروحة، اللون حول رسالة قيصر للتائبين عن المفردات التى اهترأت. مثلا: وصف حرية لم تجد خبزها. وصف خبز بلا ملح حرية. أو مديح حمام يطير بعيدا عن السوق.. كانت رسالة قيصر شمبانيا للدخان الذى يتصاعد من شرفة الوقت، أبيض...». رغم أن درويش لم يهاجم القيادة الفلسطينية علانية، إلا أن موقفه كان ثابتا، وقد صرح فى إحدى مقابلاته الصحفية عام 1997: «عندما تم التوقيع بالأحرف الأولى، قدمت استقالة مشروحة بدقة تحمل نقدا فكريا وسياسيا لاتفاق أوسلو، من منطلق أن هذا الاتفاق ليس عادلا (...) ولا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطينى بامتلاك هويته الفلسطينية، ولا جغرافية هذه الهوية (...) ولم أرَ فى الاتفاق إلا حلا إسرائيليا لمشاكل إسرائيلية (...) ومع ذلك (...) قلت إننى لا أستطيع أن أقبل الاتفاق، ولا أستطيع أيضا أن أرفضه لأنه مخاطرة تاريخية. لا يستطيع ضميرى أن يتحمل حرمان الشعب الفلسطينى من إمكانية حل ما. وكان هناك صراع بين قلبى وعقلى (...) وهكذا أسفر الواقع والتجريب بعد ثلاث سنوات عن شىء أكثر مأساوية وأكثر سخرية»، فما بالك بثلاثين عاما؟ صدق ورحل محمود درويش، وما زال لا شىء يعجبنا.
التعليقات