قامُوس المُتفاخِرين - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس المُتفاخِرين

نشر فى : الجمعة 23 فبراير 2024 - 8:00 م | آخر تحديث : الجمعة 23 فبراير 2024 - 8:00 م

لم تكُن المعركةُ اللفظيَّة التي نشَبَت بين اثنين من أصحاب الوظائف بحاجةٍ للتجاوُز والتعدّي؛ لكنها انتهت مع احتقانِ الأجواء إلى: "أنا أقدر أرميك ورا الشمس". انكَمَش واحدٌ واستأسد الآخر وانتقلت الحالُ من تشاحن عاديّ مُتكرِّر إلى مَوقِف استعلاءٍ بل واستقواء. توقَّعت أن ينبريَ شاهدٌ فينهَر هذا المُتفاخِر بصلاته وعلاقاته وقد بدا على قَدر يَسير من التبجُّح؛ لكن أحدَ الحاضرين لم يُحرِّك ساكنًا؛ فالكلُّ يتحسَّب من صحَّة التهديد ويتخوَّف من عاقبة محتملة. لم يكن للكبرياء مَحَلٌ ولا مُتَّسع للنخوة.
• • •
التفاخُر في قواميسِ اللغة العربية مُرادفٌ للمُباهاة والتكبُّر والتعاظُم؛ قد يكون بالحَسَب والنَسَب أو بالثروةِ والمال، وقد يكون أيضًا بالمَنصِب والنُّفوذ. الفاعل مُتفاخِر بكسر الخاء والمفعول مُتفاخَر به بفتحها، والأسماء المُشتقة من الفعلِ مُتعدِّدة يُذكَر في مُقدمتِها صاحبُ الصَّوت العظيم صباح فَخري، وهناك أيضًا المُمَثل الراحل يوسف فخر الدين، أما إذا قيل وَليمة مُفتخَرَة؛ كان المرادُ التدليلَ على ما ذَخرت به مِن أصنافِ المأكولاتِ وأنواعها.
• • •
على الشاشةِ إعلاناتٌ عجيبةُ الشأن تسُوق إلى المشاهدين أنباءَ النجاح في الحصول على مَزيد من القُّروض. القَّرضُ دَيْن، والدَيْن ذلٌّ، وردُّه عبءٌ ثقيلٌ يتحمَّله الناس. العَجَب ليس فقط في مُحتوى الإعلان بل في الصِّياغة التي تطفح بالاستبشارِ والسَّعادة؛ وكأن في الأمر ما يَستَوجِب التباهي. بعضُ المرَّات يكون المُتفاخِر غافلًا عن حقيقته، وفي مَرات أخرى يُدركها؛ لكنه يُشتِّت الأنظارَ بعيدًا عنها.
• • •
كثيرًا ما يُوصَف الشَّخص المغرور بأنه يزهو مثل الطاووس؛ يَختال بريشه الملوَّن المَفرود ويَتيه بما له من جمال؛ لكنه يبقى ثقيلَ الظِل، يَنفر من مَجلسِه المُتواضعون، ويَكرهه مَن كان على شاكلته؛ إذ تحتَدم المُنافسةُ بينهم على جَذب الأنظار. بعضُ الناس يبدو متأنقًا جميلًا فما أن يفتحَ فاه حتى يتجلّى قُبحه، ولإن كان اللونُ الزاهي ظاهرًا للعين مُفرحًا؛ فقد يتبيَّن أنه مُجرَّد قشرة؛ باطنها كالح مَمسوح.
• • •
ربما يزهو المَرءُ بما عنده، وقد ينتحل أمورًا بعيدةً عنه ويُوهِم مَن حولَه بها؛ فقط كي يُرضي نفسَه، ويبدو في أفضل حُلَّة. يقول المأثور: "من جوه هالله هالله ومن بره يعلم الله"، والمراد أن السَّطح لا يَشي دومًا بالدواخل، فرُبَّ ما يُعمي بريقُه الأبصارَ ويخدعها، فإن زال الخداع تبدَّى الجوهر صدئًا متقيحًا.
• • •
ألقَت شويكار في مسرحية سيدتي الجميلة بعبارتِها الساخرة الخالدة: "وأنت بحكمتك تحتال علينا"، فحصدت الضَّحكاتِ التي لم تزل تتجدَّد إلى يومنا هذا؛ إذ الأصل في الكلمة "تختال"، والحقُّ أن هذا الذي يختال على الناس ويتكبَّر؛ غالبًا ما يحمل داخله خواءً كبيرًا يسعى بمسلكه إلى مُداراته، وعلى كل حال يُمكن القول بأن نصَّ الخُطبة الرزينة الذي حملته الأوراقُ، وهذا الذي عَجَزت "صدفة بعضشي" عن قراءته ففَجَّرت وسط جماهير المسرح القهقهات؛ كليهما عاكسٌ لوَجه من وُجوه الحاضر.
• • •
مَن يتفاخر أمام الآخرين بما لديه؛ يُريد أن يجدَ في نظراتهم الغِيرةَ والحَسد، وأن يرى على وجوهِهم الغيظَ والرغبةَ في الحصول على ما له. هو إشباع مَريض لنقيصةٍ، ومحاولة لتهدئةِ مشاعرٍ دونية لا سبيل لمداواتها إلا بالإدراك والمواجهة.
• • •
التيَّاه صيغةٌ تحمل المُبالغة ومثلها الفَخور، وقد تفاخر العربُ فيما بينهم من قديمِ الزَّمن بشجاعة في الحَرب، وبَطشٍ في النّزال، وفصاحةٍ في الّلسان ما تنحَّت السيوفُ جانبًا وأفسحت المَجالَ للبيان، ولا أعظم مُفاخرةً وأشدَّ وقعًا من أبيات المُتنبي التي درسناها وحفظناها ثم أسقطناها من الذاكرة؛ وكأنا لم نسمع بها قبلًا: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي .. وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ .. فالخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني .. والسيفُ والرمح والقرطاسُ والقلم. اليوم تتفاخر معظم بلدان لأمةُ العربيَّة -إن جاز الجمع بين أقطارها- بطأطأةِ الرؤوس وكسرةِ الأعناق على الصدور، وإراقةِ الشَّرف والكبرياء في حَضرةِ العدو.
• • •
قدَّمت القديرة عايدة عبدالعزيز دور السِّت زاهية في مُسلسَل "ضمير أبله حكمت"، وهو في ظنّي واحد من أجمل أدوارها. شَخصيَّةٌ شديدة التَّعقيد، تُبدي غير ما تُبطِن، تتباهى بقُدراتها الفائقة فيما تشعر بالضِّعة، تتعالى وتتفاخَر بينما يغمرها إحساسٌ عميقٌ بالضآلة، ويبدو أن اختيار الاسم المُناقض لروح صاحبته جاء ليتمِّم الدراما. المُسلسَل تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج أنعام محمد علي وقد عُرِضَ أوائل التسعينيات.
• • •
التقيت ضِمن المعارفِ مَن إذا حَضَر مَجلسًا وسمع عن رحلةٍ أو فُسحةٍ أو مُغامرة، أو حتى عن أخبار الدراسةِ والتَّحصيل بين الأبناء والبنات؛ انتزع خيطَ الكلام ليُباهي بمثل ما قيل ولا يكفُّ عن المُزايدة والتفاخُر؛ إلا حين يَصمت الآخرون تمامًا، ويَعزفون عن استئناف الحديث؛ الذي يتحوَّل بفضل الرَّغبة المَحمُومة في الظهور إلى تنافُسٍ مَقيت.
• • •
لكلِّ جديد زَهوَته وبريقه. عرفت بين الأصدقاء مَن إذا ابتاع ملابس جديدة، لم يَصبر على ارتدائها سوى ساعاتٍ قليلة؛ لا يُطيق أن يحتفظَ بأيّ مما اشترى لمناسبة قادمةٍ أو لعيد. يتقافز في عينيه الجَّزل وتنطقُ قسماتُه بالفرحة، ولا تكتمل السعادةُ إلا بمشاركة الآخرين. مثل هؤلاء لا يعرفون تكبرًا أو زهوًا أو اختيالًا، هم أنقى ولا شكّ وأطيب.
• • •
الفاخر من الأغراضِ له قيمةٌ ماديَّة مُرتفعة؛ يقتنيه قليلُ البشر، أما الثمين فيحملُ وجه النسبيَّة؛ قد لا يتمتَّع في سُوق التجارة بموْقع مُتمَيز؛ لكنه عند مالكِه فريدٌ لا يُقدَّر بمال. وَرَثت عن جدّتي خاتمًا قديمًا انخلعت فصوصُه وضاع بعضُها ولم يعد مِن الصيحاتِ الجذَّابة في عالم الحُليّ والمَصاغ؛ لكنه لم يزل عندي أثمن المقتنيات.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات