رمزية «كفر عسكر».. الصراع والمقاومة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رمزية «كفر عسكر».. الصراع والمقاومة

نشر فى : السبت 20 يناير 2024 - 9:05 م | آخر تحديث : السبت 20 يناير 2024 - 9:05 م
ــ 1 ــ
من بين طوفان الكتب والروايات التى يستعد أصحابها (مؤلفون وناشرون) للظهور بها فى معرض القاهرة الدولى الكتاب 2024، لفتنى للغاية إعلان إحدى دور النشر الحديثة (كتوبيا) عن إصدار (ثمانية كفر عسكر) للروائى الراحل الكبير أحمد الشيخ؛ أحد أهم وأبرز كتاب جيل الستينيات، وإن لم يكن فى الطبقة التى استأثرت بالشهرة والأضواء والمال، فضلًا على أنه عاش حياته كلها تقريبًا بعيدًا عن بؤر الضوضاء والتعارك والصراعات، وكان شخصًا عزوفًا عن الأضواء.
أحمد الشيخ كاتب أصيل ومقتدر (1939ــ2017)، صوت إبداعى نافذ وعالى القيمة، وهو واحد من أبرز أدباء الستينيات الذى عايش آلام مصر وآمالها على مدى نصف قرن من الإبداع، كتب الرواية والقصة القصيرة، فضلًا عن نشاطه فى الدراما التليفزيونية والإذاعية، ومساهماته الأخرى فى أدب الأطفال.
ورغم العزوف الشديد عن الشهرة والأضواء والضوضاء معًا، فإن أى مؤرخ للرواية العربية والمصرية (فى النصف الثانى من القرن العشرين) لا يستطيع، وليس بمقدوره أن يغفل اسم أحمد الشيخ. فهو قامة روائية عالية‏، ‏ أنجز حصادًا وفيرًا من القصص والروايات، والدراما التليفزيونية‏، واشتهر بحفره الغائر فى ذاكرة القرية المصرية التى هيمنت على وعيه الشقى من ناحية (كما وصفه الناقد الراحل صلاح فضل ذات مرة)‏، ‏ومغامراته الجسور فى دروب المدينة التى خبر قاعها من ناحية أخرى، يتبدى ذلك كأنصع ما يكون فيما تركه الشيخ من أعمال روائية وقصصية، وخاصة سلسلة رواياته الفذة التى أخرجها تحت راية «كفر عسكر»؛ وصدر فيها «الناس فى كفر عسكر»، و«حكاية شوق»، و«حكايات المدندش»، و«سيرة العمدة الشلبى»، وغيرها التى احتلت مكانها ضمن أهم الأعمال الروائية وأبرزها فى مدونة إبداع جيل الستينيات وحتى وقتنا هذا.
ــ 2 ــ
وجاء صدور هذه الطبعة الكاملة من ثمانية «كفر عسكر» لأحمد الشيخ، بأغلفةٍ جذابة وزاهية الألوان (بتعبيرها الرمزى البسيط، واستلهامها للتيمة الشعبية «الريفية») جاء مفاجأةً سارة لى، ولكل محبى الكاتب الكبير وعارفى قدره وقيمته فى الكتابة الإبداعية. لفتنى حقيقة التفات دار النشر الذكى اللماح؛ موضوعًا وتوقيتًا، لإرث الكاتب الكبير ولهذه السلسلة بالتحديد من الروايات، فـ «كفر عسكر» مثلت روح القرية المصرية الأصيلة، وتوسعت فى جمالياتها لتتجاوز روح «التسجيل» و«التأريخ» فى إطار تقاليد الكتابة الواقعية إلى الرمزية الإنسانية الشاملة، واتخاذ الحكاية إطارًا لتأريخ موازٍ للصراع العربى الإسرائيلى.
هذه البراعة التى تفنن الناقد الراحل صلاح فضل فى توصيفها قائلا «فعل أحمد الشيخ هذا باقتدار فى رواياته سالفة الذكر، التى وضعته فى مصاف كبار كتاب الستينيات، بمذاق خاص ولغة متفردة، وعوالم برع الشيخ فى رسمها وتجسيدها فنيا، وتميز فى كتابته تلك بأسلوب معجون من دقيق السرد وزبد الحوار بمهارة عجوز ريفى حكاء‏،‏ يعرف كيف يمزج مستويات اللغة بلفتات الذهن وتقنيات التعبير‏، ‏ حيث تتشابك خيوط اللهجة العامية المفصحة بأمشاج الأمثال وطزاجة الكلام اليومى المعتاد‏، ‏ لتدمغ الشخصية والموقف بما يسمى نقديًّا «الأسلوب غير المباشر».
صدرت الرواية الأولى من هذه الثمانية بعنوان «الناس فى كفر عسكر» عام 1979 بعنوان فرعى (أولاد عوف)، ورغم أنها نشرت بعد اثنتى عشرة سنة من هزيمة 1967 فإنها كانت صيحة مقاومة إبداعية حقيقية، يمكن إدراجها ضمن أهم الأعمال الإبداعية التى سعَت لتجاوز آثار تلك الهزيمة، بإعادة مراجعة شاملة وممارسة للنقد الذاتى على كل المستويات، ودون وضع أى حدود لأى سقف.
ــ 3 ــ
الكاتب الراحل علاء الديب وصفها بأنها «رواية مهمة، غنى حقيقى فى الموضوع»، وأنها تقدم «صورة جديدة وأصيلة للريف المصرى»، واعتبرها صلاح فضل «رواية مكثفة عن النسيج الإنسانى والاجتماعى والقيمى للقرية المصرية، عمل فنى فريد كتبه الشيخ فى لحظة وعى حاد بالوطن وما يدور فيه وحوله، ليقدم عن هذا الجيل الذى خبره وعايشه وانتمى إليه شهادة فنية موثقة».
تتخذ أحداث الرواية ــ التى تبدو للوهلة الأولى رواية تقليدية بسيطة ــ من الريف المصرى خلال القرن العشرين فضاء سرديًّا، يُقدِّم خلاله أحمد الشيخ ملحمته البديعة عن الأرض، وقيمتها بالنسبة إلى الفلاح، والخصومة المتوارثة بين عائلتى «عوف» و«شلبى» فى بناء محكم لا يقدر عليه إلا كاتب كبير متمكن.
قصة واحدة تُروى من وجهتى نظر مختلفتين، من شخصين، ومن جيلين مختلفين، منظومة قيم متحورة، قصة صراع بين الأجيال، بين قيم الماضى الحالمة وقيم الحاضر العملية، والتى لا تراعى أى أبعاد إنسانية، إنها صراع مستمر.
وإن كان يجوز لقارئها المدقق ألا يعتبرها عن القرية أصلا، فهى فى الأساس تحكى عنّا، نحن «أولاد هذا البلد لا أولاد كفر عسكر «حسن» و«صالح»، كفر عسكر هى مصر، وأولاد عوف هم أبناء مصر»، كما يعرف بها أحمد الشيخ نفسه.
لكن الرواية بعمقها وأصالتها تتجاوز الإطار الحكائى البسيط لصراع على الأرض بين عائلتين فى قرية ريفية، ستصير الرواية «رمزية» أكبر أو «أمثولة» لصراع أشمل، يمكن أن يكون فى مصر «الوطن المباشر للكاتب»، أو تتسع دوائر التأويل ليكون فى فلسطين قلب العرب النازف، أو تشمل الرؤية التأويلية أى مكان آخر فى العالم يتصارع فيه أصحاب الحق والأرض مع مغتصبيها، يقاومون ويتصدون لهذه المحاولات مهما كانت فداحة الأثمان والأرواح.
إنها أشبه بمرثية للقرية القديمة، وفيها وعى الإنسان المنغمس فيها إلى أقصى حد، وهذا هو الذى يعطى نبض الحياة ونبض الصدق فى الفن.
ــ 4 ــ
فى النهاية، أحيى هذا الاختيار وأثمنه، وأدعو دور النشر الجديدة والشابة إلى احتذائه، فلن نواجه القبح والفوضى وتسطيح الوعى إلا بالأعمال التى تسمو بالذائقة، وتنشط الخيال، وتنقل قراءها إلى دوائر اطلاع أخرى وآفاق أرحب وأوسع وأرقى على الحقيقة لا المجاز.