مصورة الشمس الوطنية - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 11:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصورة الشمس الوطنية

نشر فى : السبت 20 يناير 2024 - 9:00 م | آخر تحديث : السبت 20 يناير 2024 - 9:00 م
الحكايات التى يرويها الكاتب الفلسطينى إبراهيم نصرالله فى «ثلاثية الأجراس» لها وقع مختلف على النفس هذه الأيام، مقارنة بوقت صدورها لأول مرة عام 2019، عن الدار العربية للعلوم فى بيروت، ومكتبة تنمية فى مصر، والدار الأهلية فى الأردن حيث يعيش المؤلف. تدور أحداث الروايات الثلاث فى الفترة ما بين 1917 و1993، وهى: امتداد لمشروعه الأدبى الأوسع «الملهاة الفلسطينية» الذى يهدف إلى تأمل قضية شعبه على مدى 250 عاما. روايات متصلة منفصلة فى آن، يمكن قراءة أى واحدة منها باعتبارها عملا مستقلا أو تتبع شخصيات الأجزاء المختلفة المستلهمة من الواقع بشكل متكامل.
توقفت مليا عند «سيرة عين» التى تتناول حياة ابنة مدينة بيت لحم، كريمة عبود (1893ــ1940)، أول مصورة عربية محترفة، وتحديدا عند سؤال طرحه الراوى منذ الصفحات الأولى: «هل كانت تدرك أن ما يتبقى فى النهاية هى الصور؟». الفكرة ذاتها تتبلور تدريجيا مع الأحداث التى يختلط فيها الشخصى بالعام، ففى المحصلة الرواية لا تتعرض لسيرة المصورة وحدها، بل تتطرق إلى تاريخ عائلتها التى تساقط أفرادها واحدا تلو الآخر بسبب مرض السل، وإلى تفاصيل الحياة المدينية فى فلسطين خلال مرحلة هامة من النضال فى ظل الانتداب البريطانى وبداية الهجرة الصهيونية، «فمنذ أن وضع أول إنجليزى قدمه على أرض فلسطين بدأت مآسيه (...) مرة يجتاحون كل شىء فيه، ومرة يتحولون إلى كرماء فيقدمون الوطن نفسه لمن ليس لهم حق فيه، وفى أوقات راحتهم، يقومون بفتح أبواب الهجرة لليهود، ليأتوا، ويأخذوا، هم أيضا، حصة من أجساد الناس وأعناقهم ولحومهم».
• • •
كريمة عبود فهمت مبكرا أن «الغياب والصورة لا يجتمعان»، وأن «اللحظة التى لا تستطيع أن تمسك بها الزمن، بالكاميرا، لن نستطيع استعادتها أبدا»، وأن الصور التى تلتقطها ليست «عن زمن يمر، بل عن بشر كانوا هنا». وأظن أنه الإحساس نفسه الذى يدفع المصورين والصحفيين حاليا نحو الاستماتة بهدف تسجيل اللحظات الحاسمة التى يشهدها وطنهم وناسه. المصورة، التى كانت تتقن الألمانية والإنجليزية إلى جانب العربية، تمردت على الدور التقليدى للمرأة منذ بداية مسيرتها المهنية فى مطلع القرن العشرين. قادت سيارتها من مدينة لأخرى ومن بيت لبيت لكى تلتقط صورا للعائلات، وافتتحت استوديو فى بيت لحم، ثم مشغلا لتلوين الصور. وانتشرت صورها فى منازل الأسر المترفة فى بيت لحم وحيفا والناصرة وطبريا، وبعد ذلك فى دمشق والسلط وبيروت. نتجول معها فى الرواية بين أرجاء هذه الأماكن فى خضم أحداث ثورة 1936 والإضرابات واحتفالات النبى موسى فى أريحا التى كانت فرصة للاحتجاج الشعبى على الانتداب، إلى ما غير ذلك. نتعرف على أسماء المصورين الأشهر آنذاك ومن بينهم سى ساويدس، صاحب صورة الغلاف، الذى اختارته دون غيره لكى يلتقط لها بورتريها رسميا بمذاق مختلف للضوء. أراد أن يبعث لها برسالة تقدير وإعجاب بفنها فاستعان بأسلوبها ليصورها، إذ عرفت باهتمامها بتوزيع النور والظلال وقيل عنها إنها «مصورة الشمس الوطنية»، كما جاء فى عنوان لصحيفة «الكرمل».
• • •
برع إبراهيم نصرالله فى شرح التفاصيل الخاصة بفن التصوير وإحساس من يسعى لتخليد اللحظة والتقاط صورة تشبه روح صاحبها، فهو رسام ومصور بالإضافة إلى كونه روائيا وشاعرا، لذا يعى جيدا ما يقوله حين يكتب على لسان بطلته «لا يستطيع أحد أن يرى حقيقة ما يدور فى داخل الناس أفضل من المصور، مع أنه لا يصور إلا مظهرهم الخارجى». برع أيضا فى نسج تفاصيل علاقة كريمة بوالدها القس سعيد عبود اللوثرى الذى تنحدر عائلته من بلدة الخيام جنوب لبنان ونزحت إلى الناصرة فى أواسط القرن التاسع عشر. أب حنون ومثقف، يعزف على الأرغن، لم يكف عن تشجيع ابنته، آمن بموهبتها منذ البداية وأهداها أول كاميرا دون أن تطلب.
الحوارات بينهما فى غاية الرقة وتوحى أنها حقيقية من فرط صدقها. تفهم تماما دوافع ابنته حين قررت أن تخرق الالتزام بالإضراب العام الذى أعلنته قيادة الثورة لكى تصور البيوت التى زعم بعض المصورين الأجانب مثل موشيه نوردو أنها لليهود الأوائل الذين هاجروا إلى فلسطين، وهى فى انتظار عودتهم إليها. صوروها خالية من الناس، وأرادت كريمة أن تعيد إليها أهلها وأن تسجل وجودهم فيها، ونشرت صورها فى جريدة «الكرمل». قاومت بأدواتها الخاصة، قائلة: «أنا ذاهبة لأصور قبل أن يسرقوا بيت لحم كلها»، فتركت لنا واحدة من أجمل أعمالها وقف فيها عشرات الأطفال وأمامهم تمثال العذراء خلال احتفال فى قصر جاسر.
• • •
كانت الحملات العسكرية فى كل مكان والحياة تضيق بالناس، لكنهم مصممون على إنجاح الإضراب إلى أن توقفت الثورة بعد ستة أشهر، تحديدا عقب نداءات الملكين عبدالعزيز آل سعود وغازى بن فيصل والأمير عبدالله الموجهة إلى الشعب الفلسطينى بواسطة رئيس اللجنة العربية العليا، والتى دعت إلى حقن الدماء، معتمدين على «حسن نوايا صديقتنا بريطانيا ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل». اعترض أحد زملاء والد كريمة على ما حدث، متسائلا: «هل أضعنا فلسطين حين أضعنا هذه الثورة مستندين إلى وعود الإنجليز ووعود زعمائنا العرب الذين يستعمر الإنجليز بلادهم؟».
أخذت الأحداث تتسارع وأصاب كريمة مرض السل وذبلت صحتها إلى أن انتصر عليها الموت وودعتها بيت لحم فى جنازة حزينة، وضعت فيها الكاميرا إلى جانب نعشها. توقفت أحداث الرواية إلى هنا، لكن يجب الإشارة إلى أنه فى صيف عام 2006 تم الكشف عن وجود عدد من ألبومات صور كريمة عبود فى حوزة جامع مقتنيات إسرائيلى بمدينة القدس، بقيت تلك المجموعة النادرة حبيسة عند الباحث الفلسطينى أحمد مروات حتى نشرها عام 2013 فى كتاب توثيقى.
التعليقات