الصيفي والشتوي - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصيفي والشتوي

نشر فى : السبت 19 أغسطس 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 19 أغسطس 2023 - 8:15 م
صارت غرفتى محشوة بأشياء كثيرة. فتحت باب الخزانة على مصراعيه وأخرجت كل ما بداخلها من ملابس صيفية وشتوية، سواء على الأرفف أو المشاجب، عازمة على ألا أكتفى هذه المرة بترتيب ما تيسر كما أفعل كل موسم، إذ وجب على القيام بعملية جرد شاملة... سأنفضها نفضا فى محاولة للتخلص من كل ما هو زائد عن حاجتى، فلم يعد هناك متسع لكل ما تراكم بداخلها لسنوات.
امتلأ السريران بالعديد من الثياب. أصبحت الحجرة تشبه «عش قطيط» كما نقول فى منزلنا، حتى لو لم أفهم معنى وأصل هذا التعبير بالضبط، لكنه يوحى بالصورة إلى حد كبير. هل لأن القطط الصغيرة تلهو كثيرا داخل وكرها قبل أن تخرج لاكتشاف العالم؟ ربما. المهم أننى بدأت أتوارى تحت ثيابى العتيقة، غيظى يعلو ويهبط، وأحيانا أرمق بعضها بنظرات حانية. وقفت بين مقتنيات متحفى الشخصى التى جمعتها على فترات متباعدة. قطع بعضها رث وبعضها ثمين تحكى تفاصيل حفظتها فى صندوق الذاكرة، وصانتها من الاندثار والخلط بحبات النافتلين. رائحة هذا الأخير انبعثت من الخزانة العلوية، فقد تحولت كراته إلى بدْرة كالدقيق الأبيض، واختلطت بعبير اللافندر الذى وضعته فى أكياس قطنية بيضاء وما تبقى من زجاجات عطر قديمة.
• • •
شرعت فى الفرز، فهناك ملابس ضاقت علىّ بالطبع وأخرى ذهبت موضتها ــ لكنها قد تعود ــ وثالثة يجب إعادة اكتشافها بعد إزالة الأتربة، وهكذا دواليك. هذه «بلوزات» طويلة فضفاضة لزوم العمل الميدانى، لبست إحداها يوم ما ركبت شاحنة مليئة بأناس مبتهجين من الريف، كانوا متكدسين فى مؤخرة السيارة ويتمايلون مع حركتها يغنون ويصفقون قبل أن يضل السائق طريقه، وأخرى صرنا نطلق عليها «بلوزات الحزب» لأنه تم شراؤها قبل زيارة حزب الله بلبنان. وهذا القميص الكاروهات شربت به أحلى عصير جوافة صنعته سيدة بالقرب من الحدود فى رفح، حيث تمتزج النكهات والوصفات بين المصرية والفلسطينية، أعدت أيضا فلافل طازجة بالحمص والفول معا لإفطار شهى. البقعة الصغيرة بالقرب من الإبط ذكرتنى بوجبة عدس أسود لذيذة فى الأندلس، أتى بها نادل عجوز يتصبب عرقا من الحماسة شارحا ما الذى يجب إضافته عليها كى نتعرف على مذاقها الأصلى. كيف سأبدو فى الفستان الذى ارتديته فى تلك المناسبة السعيدة بعد مرور الزمن؟ ربما سأجد صعوبة فى إدخال الكوعين وقد يتمزق كم الثوب الأحمر الوردى... ظللت أجرب، ألبس قطعة وأخلع أخرى... ذكريات الإحباطات الماضية لا تتركنى فى حالى، ثم يراودنى الأمل ثانية أو تغمرنى سعادة عارمة لمجرد لمس إحداها.
كعب حذاء يطقطق على الأرض وغير مريح يرجعنى إلى الواقع. الآن حانت ساعة اتخاذ قرارات حاسمة حيال هذه التلال الصغيرة من الملابس التى تكومت. قطعا لن أتنازل عن الشال الأسود المطرز الذى أهدتنى إياه سيدة لطيفة من بيت لحم، قابلتها مرة وعلى الأغلب لن أراها مجددا. لم أضعه أبدا فى حياتى مثل آخر من شغل التلى الصعيدى، لكن ذلك لا يعنى الاستغناء عنهما. ما العمل إذا؟ هناك مائة مليار قطعة ملابس يتم تداولها حول العالم سنويا، وأنا أقف هنا وحيدة لا أجرؤ على الحسم؟ صرت أردد فى قرارة نفسى: «فكرى فى الفرح الذى سيشعر به من ستئول له الثياب المخزونة، بعد تنظيفها وكيها».
• • •
حاولت بعدها اتباع نصائح الإخوة اليابانيين فيما يتعلق بالترتيب والتخلص من الأشياء القديمة، خاصة اثنين منهما ألفا كتابين حققا نجاحا مدويا، وهى ليست مصادفة أن يكونا من طوكيو، فالحياة فى بلد معرض بشكل دائم للزلزال جعلتهما على الأغلب يفهمان معنى أن يعيش الإنسان خفيفا، دون الاحتفاظ بالكراكيب. يشرح فوميو ساساكى صاحب «وداعا للأشياء» أنه لا يحتفظ سوى بحقيبة واحدة وضع فيها كل متعلقاته، لذا من السهل أن ينجو بنفسه فى حال حدوث كارثة طبيعية، وقد تدرب على أن يفصل بين مفهومى السعادة والمال أو لذة الاقتناء، واعتمد البساطة فى الحياة، الـ (minimalism)، قبل عشر سنوات.
لست مضطرة بكل تأكيد إلى التقشف والزهد إلى هذا الحد، لكننى قد آخذ ببعض ما جاء فى كتاب مواطنته ــ مارى كوندو ــ التى نشرت «سحر الترتيب» قبل اثنى عشر عاما وتحولت إلى أيقونة عالمية فى التنظيم بعد أن تم طبعه فى أربعين دولة وحقق مبيعات تجاوزت العشرة ملايين نسخة. هى توصى بأن نتخلص من كل ما لا يرتبط بذكريات سعيدة ومرح فى العيون، وتقول إنه إذا أصابنا بنطال قديم بالتوتر أو القرف مثلا فمعناه أنه حان وقت الرحيل، مهما تعلقنا به ومهما بلغت غلاوته، فنحن بحاجة إلى مراجعات مستمرة، كما أن لهذه الملابس حياة من بعدنا حتى لو كانت مهترئة وممزقة. لأن الكثير من الملابس المستعملة يتم إعادة تدويرها حول العالم أو بيعها فى أسواق البالة أو توزيعها على المحتاجين، إلى ما غير ذلك. لا أدرى أين سيكون مستقر هذا الفستان أو تلك العباءة، فى ظل بيزنس كامل له شبكاته المتشعبة، فحين أرادت مجموعة من الصحفيين الاستقصائيين الأوروبيين تتبع مسارات الملابس المستعملة ووضعوا بها جهاز «جى بى إس» صغيرا للغاية اكتشفوا أن بعضها يعبر الحدود ويسافر بعيدا ويصدر إلى إفريقيا مثلا ضمن ترتيبات معقدة.
دورة تجارية وصناعية كاملة قد يخضع لها ما استغنى عنه من ملابسى بعد أن كنزتها طويلا فى الخزانة مثل غيرى من الناس، أملا فى أن أخسر بضعة كيلوجرامات وأرتديها ثانية أو حبا فى الامتلاك أو رغبة منى فى الاحتفاظ بشىء من رائحة الحبايب أو تحسبا لأن تصبح ضمن أحدث صيحات الموضة بين ليلة وضحاها. ظللت أقنع نفسى أن الذكريات ليست بحاجة إلى عكازة وأنا أمد يدى لكى أتخفف من الأحمال وأفرغ مكانا فى «الدولاب» الخشبى... أطوى وأرتب، أفصل ما هو صيفى وما هو شتوى، أنحنى قليلا لكى أتأكد أن كل شىء منسق، أتفحص جيدا، قبل أن أغلق صندوق الذكريات.
التعليقات