عباس العقاد بلا بيت - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عباس العقاد بلا بيت

نشر فى : الأحد 19 يونيو 2022 - 7:45 م | آخر تحديث : الأحد 19 يونيو 2022 - 7:45 م
نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة سوسن الأبطح بتاريخ 16 يونيو انتقدت فيه الإهمال الذى تتعرض له بيوت أشهر الأدباء والفنانين، على وجه الخصوص، منزل عباس العقاد بأسوان.. نعرض منه ما يلى.
بعد عامين، تكون 60 سنة قد انقضت على وفاة صاحب «العبقريات»، وهى فرصة لتحقيق حلم محبى عباس محمود العقاد فى إنقاذ منزليه فى أسوان والقاهرة، وتحويلهما إلى مزارات لعشاق أدبه، بدل تركهما نهبًا للضياع. فلا يكاد يمضى وقت إلا ويخرج علينا أحد أفراد عائلة العقاد، يشكو من أن أحد المنزلين مهدد بالزوال. ومن الغريب ألا يكون للعقاد نصيب طه حسين، وأحمد شوقى فى الاهتمام بإرثه، أو حظ نجيب محفوظ، رغم أنه أحد أكبر أدباء العرب فى القرن العشرين، وأشدهم بأسا وعنادا والتزاما بالقضايا التى دافع عنها.
من يدخل مدينة أسوان، يستقبله تمثال العقاد العملاق بهامته الشاهقة. ومع أن العائلة لم ترضَ عن هذه المنحوتة لأنها لا تشبه بالقدر الكافى صاحبها، فإنها على الأقل تذكر الزائر أنه يطأ مدينة أنجبت رجلا فذا. عبثا تبحث عن المنزل، الذى تكتشف فيما بعد، أنه أشبه بخرابة، ولا شىء فيه يستحق الزيارة. أما حين تقع عينك على مبنى كتب عليه «قصر ثقافة العقاد» وأنت تعبر كورنيش النيل الذى تصطف فيه عشرات العبارات السياحية، وتعرف أن بعض مقتنيات الأديب موجودة فيه، تشعر أنك عثرت على كنز. حدث معى هذا، فهرعت مسرعة صوب قصر العقاد، لأجده مغلقا. كدت أفقد الأمل حين قيل لى إن الشخص الذى معه المفتاح ليس موجودا. بعد الترجى والتمنى، والتوسل، حضر المفتاح ودخلت المكان، وكأننى أمام فتح لم يسبقنى إليه أحد.
على عكس كل متاحف الأدباء، وربما بسبب قلة الزوار، يمكنك أن تلمس كل شىء، أن تتناول مؤلفات من مكتبة العقاد وتتصفحها، ترى الملاحظات التى دونها. أن تجلس على سريره أو كنبته، أن تفتح أدراج مكتبه الذى كان يدون عليه مخطوطات كتبه، ولدهشتك تجد بعض الحاجيات التى لا تزال هنا. لا يُفهم كيف تركت كرفتات وبيريهات العقاد الشهيرة، ولفحات الرقبة على مشجب، يمكن لأى زائر أن يضع ما يختاره منها فى جيب أو حقيبة. مكشوفة نهبا للغبار والتآكل السريع، بدون أى عازل يحميها، الأمر نفسه ينطبق على روب النوم الشتوى البنى الشهير، الذى يظهر فيه فى كثير من مقابلاته الأخيرة. فالمكان لم يُعد ليكون متحفا، والمقتنيات معروضة كأنها وجدت بعفوية، والدعاية لها معدومة.
الضيم الواقع على العقاد تجاوز أسوان، ووصل إلى بيته فى القاهرة، الذى ضم، ذات يوم، أشهر صالون أدبى عرفه العرب فى عصرهم الحديث. ثمة إهمال رسمى عربى للثقافة عموما. فهى ليست من ضمن الأولويات، لأن المسئولين لا يصدقون أنها استثمار مربح. أسوان يزورها ملايين السياح، ومن الإجحاف ألا يتحول بيت العقاد هناك إلى مؤسسة ومتحف، تباع تذاكره كما بيت بلزاك فى باريس أو فيكتور هوغو.
إهمال بيوت الأدباء والفنانين العرب بات مزمنا وخطيرا. ففى لبنان، باستثناء متحف جبران خليل جبران فى بلدة بشرى، الذى يمول نفسه ذاتيا، بفضل خطة وضعها له الأديب قبيل موته، فإن ما يتركه الأدباء خلفهم يتحول إلى عبء، وربما لعنة. ميخائيل نعيمة مقتنياته موزعة بين بيتين، ترعاهما العائلة، قدر ما تستطيع. بيته الشتوى فى الزلقا، الذى قضى فيه السنوات الأخيرة، تحول إلى سكن للطلبة ونقلت المقتنيات إلى بيت جديد. مارون عبود منزله فى عين كفاع، لا يزال جزءا منه على حاله، بفضل أحفاده، لكن إلى متى؟ هذه البيوت إما مستأجرة كحال منزل العقاد فى مصر الجديدة، أو هى ملك عائلى لا بد أن ينتفع به أصحابه. فأن يكون الأب أو الجد، أديبا كبيرا، لا يعنى أن يتحول إرثه إلى وقف، وتركته إلى مهمة مستحيلة. أمين ألبرت الريحانى، يرعى منزل عمه أمين الريحانى، يرعى المتحف بجهد كبير، لكن هذه المشروعات مكلفة ومتعبة، وتحتاج إدارتها كمؤسسات، ورعايتها كمشروعات وطنية وأن يتم السعى لتطويرها باستمرار.
الحفاظ على آثار الأدباء ليس ترفا. فأكثر ما يحتاجه الجيل الجديد هو القدوة والنموذج، والمرجعية، ومن دون هؤلاء الكبار، لن يجد النشء من يركنون إليه، من يسمعون صوته، أو يصغون إلى فكره. شبابنا يعيشون فراغا روحيا، وكأنهم فى متاهة. لذلك، لا يكفيهم أن يقرأوا الأدب، بل يحتاجون أن يروا أن مَن كتب إنسانٌ مثلهم، يأكل وينام، وله سرير ومكتب وملابس وأوراق وأقلام، وبيت بسيط يعيش فيه مكتفيا، لكنه، مع ذلك، تسلق ذرى وقمما، يشتهون بلوغها.
من غير الجائز أن يُعتنى بقبر عباس محمود العقاد فى أسوان أكثر من بيته الذى استقبل ندواته واحتضن كتاباته، واليوم تصدعت جدرانه، وصار محمولا على سقالات خشبية، وأوشك على الانهيار بسبب فيض المياه الجوفية، وطول الإهمال. فالأديب الكبير يحتاج إلى منزل، ونحن نريد أن نستظل بهذا البيت ونركن إلى فيئه. للبيوت حرماتها، لكن لبيوت الأدباء أرواح، وعِبر ومسارب إلى حيوات كثيرة أُخر.
التعليقات