صَــبَّ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 11:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صَــبَّ

نشر فى : الجمعة 19 مايو 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : الجمعة 19 مايو 2023 - 8:25 م

كثيرًا ما يستهويني مشهد صَب الشاي من علٍ؛ إذ يتوجه السائلُ الساخنُ بدقَّة إلى فُوهة الكوبِ الزجاجيّ، صغيرِ الحَجم في العادة، فلا تفلت قطرةٌ خارجه ولا تتكون أسفله بُحيرة. أداءٌ مُتميزٌ يُوحي بمزاجٍ رائقٍ أصيل؛ يُتقنه صبيانُ المقاهي الشعبيَّة، وقدامى المُخلصين للمشروب الرسميَّ العتيد، المُعدّ داخل إبريقٍ تلسعه النار، وبمنأى عن الغلايات الحديثةِ، فاقدةِ الروح والحميمِيَّة.
• • •
يأتي الفعلُ صَبَّ في قواميس اللغة العربية بمعنى سَكَبَ، الصابُّ هو الفاعل والمَفعول به مَصبوب؛ وما من ضرورة لأن يكون المَصبوبُ مرئيًا أو ملموسًا، فربما صَبَّ الواحد اللعناتِ على آخر، وربما قيل في سُخطٍ عميق إن فلانًا قد صَبَّ الزيتَ على النار؛ والمراد أنه أسهَم في إشعالِ الموقف بأكثر مما هو مُتأجج مُحتدِم؛ إما عن قصدٍ خبيثٍ أو عن نيَّة حَسِنة مُغلفة بالسَّذاجة والرعونة.
• • •
كثيرةٌ هي التعبيراتُ التي تنشأ في أجواءٍ سياسيةٍ بعينها، ثم إذا بها تنتشر ويُعاد إنتاجُها ويتواصَل تداولُها، وربما تنال لغرابتها والتصاقها بأفعالٍ نَزِقة؛ حظًا وافرًا من السُّخرية والتبكيت. من بين التعبيراتِ التي طفَت على السَّطح مُؤخرًا "الصَّبُّ في المصلحة"، والمَصلحةُ المَقصودةُ هي مَصلحةُ المُواطن بكل تأكيد، والتعبير قد حقَّق ذيوعًا هائلًا على مدار السنوات القليلة الماضية؛ إذ ارتبط في الأذهان باتخاذ قراراتٍ عصيبةٍ أصابت الناسَ بالتوتر، وقد توارى التعبير قليلًا بعدما أزاحته مفردات وعبارات أخرى مستجدَّة، وأحالته فيما يبدو إلى صفحات التاريخ.
• • •
في أيامٍ بعيدة، لم تكن هناك أنظمةٌ مُتطورةٌ تمدُّ البيوتَ بالمياه النقية التي يُمكن استعمالُها أو تناولُها، ومِن ثمَّ احتلَّ صَبُّ المياه المُخزَّنة، باستخدام أوانٍ مُخصَّصة لهذا الغرض دون غيره؛ موقعًا مهمًا من تفاصيل الحياة. خوى ذاك الزمانُ من مواسير وصنابير، واحتفى بالكوز والقيروانة وما في حكمِهما من أدوات لازمةٍ لإتمام المَهام؛ فإن احتاج المرءُ لغسلِ يدَيه مثلًا، اشترك معه في الفعل قريبٌ أو زميل، فأضفى عليه رحيقًا من المَوَدَّة والقُرب؛ ليس لخلَّاط الساخن والبارد منه نصيب.
• • •
أذكر في سنواتٍ خَلت، زياراتٍ مُتكررة لمنطقةٍ قديمةٍ وشهيرة، تقع بالقُرب من مَسجد السُّلطان حَسَن؛ حيث اعتدت أن أعهد بما أنهي مِن منحوتاتٍ إلى مَسبك أعرفه، فيصنع القالبَ المَنشود، ويصُبُّ مُستنسَخًا من المعدن الذي أختار لأحتفظ به إلى جانبِ العَملِ الأصلي. صناعةُ القوالبِ وصَبُّ التماثيل يحتاج إلى عنايةٍ خاصةٍ وصَبرٍ وتأنٍ، وعلى ذكرِ النَّحت والحَفر والصَب؛ تقتحم الذهنَ هذه الأعمالُ المُريعةُ التي تقوم في الشوارع والميادين مَقام القرابين، والتي تمحو بقُبحِها وضحالتِها وفقرِها الفكريّ تاريخا يُصنفنا بين أعظمِ البنائين والنحاتين، والحقُّ أن نظرةً عابرةً لكثيرِ الأعمالِ الفنيةِ التي غزَت فضاءاتِنا وساحاتِنا في الآونة الأخيرة؛ تدفع المارَّ بها إلى طلبِ الرَّحمةِ والمَغفرة؛ فثمَّة إساءةٌ لا من قبلها ولا من بعدها، ولا عجب أبدًا فالمُجتمع ينضح بما فيه، ويعكسُ على مرآةِ الفنّ ما وصل إليه من تشوُّه وانحدار.
• • •
إذا صَبَّ واحدٌ على الآخرِ جامَّ غضبِه؛ فالقصد أنه أفرغه على رأسه. لا يُشترَط أن يكونَ المَرءُ الذي تلقّى الغَضبَ من مُسبباته المُباشرة، بل ربما وضعه سوءُ الحظّ والتوقيت في طريقِ الغاضب، فإن أدرك بشيء من التروّي والحصافة أنه ليس المقصود بالانفعال العنيف؛ تجاوز عنه وتخطاه، وإن أوجعه كبرياؤه؛ هبَّ على الفور إلى الدفاع عن ذاته.
• • •
يأتي فعلُ الصَبِّ على ما هو عليه بمعنى ليفيد الاشتياق؛ فإذا قيل صبَّ فلان إلى علانة كان المرادُ أنه رقَّ وحنَّ وغلبه الشَّوقُ، والصَّبابةُ مُفردةٌ مَعروفةٌ مُستخدمة، وقد أنشد بشار بن برد: وتَمَصُّصي ثَمرَ الصَّبابة والصِّبى ... حتى فنِيتَ وللفناءِ مَصيرُ. العطفُ في الشطر الأول يَجلبُ إلى الأذن مُوسيقى عذبةً مصدرها صوت ومعنى؛ فمرحلة الصِّبا وارتباطها بالأشواق توقِظُ عند أكثرنا الذكريات، كما أن حرفيّ الصاد والفاء اللذين يتكرران في معظم المُفردات يصنعان جرسًا أليفًا مُحببًا. على الجانب الآخر قد أنشد مطران: مُتفرد بصبابتي مُتفردٌ بكآبتي مُتفردٌ بعنائي، والبيتُ على انسيابيته يحملُ من التعاسةِ ما يُغني عن القصيدةِ كلها، فالوحدةُ المُضافةُ للمُعاناة تُحيلها أثقالًا في وزنِ الجبال.
• • •
غنَّت أمُّ كلثوم من كلماتِ أحمد رامي: الصَبُّ تفضحه عيونُه وتنمُّ عن وَجدٍ شئونه... إنا تكتَّمنا الهوى والداءُ أقتله دفينه. دَرَجت على ترديد هذه الكلماتِ دون أن أسمعَ الأغنيةَ نفسها، ولما ساقتها الصدفةُ إليّ؛ شعرت أن اللحنَ لم يُضِف إليها إنما سلبها بعضًا من قوتها، وقد وجدت العذر حاضرًا؛ فالأغنية قديمةٌ، قد وضع موسيقاها أبو العلا مُحمَّد عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين؛ ولم تكُن الألحان قد تطورت بعد بما يُكافئ عظيمَ الكلمات.
• • •

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات