بوابة الفردوس - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 11:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بوابة الفردوس

نشر فى : السبت 19 فبراير 2022 - 10:15 م | آخر تحديث : السبت 19 فبراير 2022 - 10:15 م

يعكف رائد الأعمال أحمد جاب الله، منذ نحو السنتين، على تغيير شكل المهن المرتبطة بالموت، فهو بالطبع لا يخضع للشكل الكاريكاتيرى للحانوتى الذى صورته الأفلام الكوميدية القديمة، ذلك الشخص السمين الأخنف الذى يطارد المتوفين أو ينتظر بفارغ الصبر انتقال أحدهم للعالم الآخر لكى يسترزق. بدأ الشاب العائد من الولايات المتحدة الأمريكية فى تأسيس شركة ناشئة لتكريم الموتى وتقديم الخدمات الجنائزية فى مصر عام 2019، وانطلقت بعد سنة تقريبا بنجاح، ليصبح لها باع كبير فى هذا المجال، فجدية أدائه هو وفريق العمل الذى اختاره بعناية ساهمت فى جذب المستثمرين. وكان الخبر الذى تناقلته الصحف الاقتصادية المختلفة أخيرا حول جمع منصة «سُكنى» الناشئة لمليون دولار فى جولة تمويلية أولية ضمت عدة مستثمرين استراتيجيين من بينهم أنسى نجيب ساويرس وأحمد صادق السويدى وهشام حلبونى، بمشاركة صناديق إقليمية ودولية، كما حصلت المنصة الناشئة على منحة الفيسبوك لأصحاب المشاريع الصغيرة التى تشمل ثلاثين دولة.

نبتعد أكثر وأكثر عن الصورة الكاريكاتيرية التقليدية، كلما عرفنا تفاصيل عن حياة أحمد جاب الله، إذ قضى ستة عشر عاما فى كاليفورنيا وعمل فى كبرى شركات وادى السيليكون الشهير مثل فيسبوك وجوجل وأدوبى، وذلك بعد دراسته لعلوم الكومبيوتر فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وفى إحدى زياراته لمصر توفى والد أحد أصدقائه فجأة، وكان عليه مساعدته فى إنهاء الإجراءات الروتينية، لاحظ الفوضى العارمة واختمرت فكرة «مدير المآتم والجنازات» فى رأسه، لكى يسد عجزا فى السوق المصرية، فالموت هنا هو فرصة عمل مثلها مثل غيرها، خاصة وأن شريحة معينة من المجتمع تحتاج لهذه الخدمات وعلى استعداد لأن تدفع بضعة آلاف من الجنيهات مقابل تجنب العناء و«ضمان الوداع اللائق للأحباء» كما هو مذكور على موقع المنصة لتوصيف مهمتها.

***

يبدأ جاب الله يومه فى السابعة صباحا، كما يوضح فى لقاءاته الصحفية، يتابع فورا مستجدات العمل على تليفونه وآخر الأخبار من خلال تطبيق جوجل هوم، يتواصل مع مساعدته الخاصة وهو فى طريقه لمقر عمله بالزمالك فى غضون الثامنة، ثم يمارس مهامه المختلفة حتى السابعة مساء وأحيانا العاشرة. يلعب البولو، لعبة الأمراء والسلاطين، ثلاث مرات أسبوعيا فى الصباح الباكر، وقبل الذهاب إلى النوم يستغرق فى دور شطرنج سريع وهو يحتسى الشاى. وما ينطبق عليه ينطبق أيضا على فريق العمل الأساسى المكون من عشرة أشخاص، يُعرف كلٌ بنفسه على موقع الشركة، فنكتشف تخصصاتهم المختلفة: مهندسة ميكانيكية، طالبة اقتصاد وعلوم سياسية، متخصص فى التنمية البشرية وعلم المصريات، مضيفة طيران، رياضى سابق، دارس للغة العربية والإسلاميات، إلى ما غير ذلك. جميع هؤلاء يعطون بعدا فلسفيا وتنظيريا لوظيفتهم بكلام منمق حول العلاقات الإنسانية والفروقات الثقافية والشغف، ففى ظنى الاقتراب بشكل يومى من الموت يحمل فى طياته شيئا مخيفا وأخاذا على حد سواء، وهم ربما بحكم خبراتهم التعليمية قد فهموا كيف يتعاملون معه وكيف يتخلصون من كل الأفكار المسبقة والوصم الذى ارتبط أحيانا بالمهن المتعلقة بالموت والتى تتطور بشكل لافت حول العالم وخاصة فى الغرب، فشُغلة «مدير الجنازات» ليست الوحيدة من نوعها التى صار لها اسم رنان، بل هناك مثلا «كاتب نهاية العمر» الذى يروى قصص المتوفين ويذكرنا بمحاسن موتانا، من خلال المعلومات التى يجمعها بواسطة الشخص نفسه أو أقربائه، وهناك من تتلخص مهمته فى تسهيل تقبل فكرة الموت على المقربين أو المرضى الذين ينتظرونه. لا أدرى بالضبط إن كانت تلك الوظائف هى ضمن ما تقدمه منصة «سُكنى» من خدمات تحت مسمى «مرحلة الترتيبات المسبقة» عندما يتحدثون عن «تخفيف التوتر فى المستقبل والاستشارات المجانية التى تمكنك من التخطيط المسبق للوداع وتخفيف الضغط اللوجستى حين يكون الشخص فى حالة حرجة»، لكن بالطبع نحن أمام تغيرات فى مهن بعينها، تُطور الأداء من ناحية، وتُزيد من الفجوة الاجتماعية وعدم المساواة والتباين من ناحية أخرى.

• • •

العاملون فى «سُكنى» يطلبون فقط أربع معلومات أساسية: ديانة المتوفى ونوعه ومكان الوفاة والدفن، بعدها يشرعون فى اتخاذ اللازم وإتمام الإجراءات، تصاريح وتغسيل ونقل وصناديق وورود وصدقات جارية، إلى ما غير ذلك، بحسب الباقات التى يختارها العملاء. وفى ظل الكوفيد، أضيفت ترتيبات أخرى للشعور بالأمان، فكان الحرص على تأكيد تلقى العاملين تدريبات من خلال برنامج خدمة الجنازات المتقدم وإدارة مكافحة الأوبئة وبرنامج التأهيل لتشييع الجثامين والرابطة الوطنية لمديرى الجنازات فى الولايات المتحدة الأمريكية! أضحك وأنبهر وتتدافع أمام عَينَى مشاهد من أفلام «السقا مات» و«حماتى ملاك» و«أنا لا أكذب ولكنى أتجمل» وغيرها. ثم أعود سريعا إلى الأرقام ولغة المال، فبيانات الشركة الناشئة تؤكد أنها نمت بمعدل ثلاثة أضعاف خلال العام الماضى، وأنها تمتلك شراكات تشغيلية مع 20 مستشفى وشركة فى القاهرة الكبرى، بالإضافة إلى شراكات مع أكثر من 70 متعهد خدمة ولديها 50 موظفا، وتنوى التوسع جغرافيا فى تقديم خدماتها بفضل ما جذبته من استثمارات ومصادر تمويل لزيادة رأسمالها.

نحن إذا أمام نموذج ناجح للشركات الناشئة التى شهدت طفرة كبيرة بمصر خاصة منذ العام 2017، فصارت مرشحة لأن تكون محورا إقليميا للشركات الناشئة بفضل المكانة المتميزة التى تشغلها عربيا وإفريقيا، كما هو الحال بالنسبة لبولندا داخل القارة الأوروبية. ستون فى المائة من السكان فى مصر تحت سن الثلاثين، ونسبة البطالة مرتفعة خاصة بين من تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، وبالتالى من الطبيعى أن تُظهر استطلاعات الرأى فى هذا المجال رغبة نحو خمسين بالمائة من المستجوبين من المصريين فى العمل الحر وإنشاء شركات صغيرة وناشئة، وما يميز فى الواقع دولا مثل مصر وجنوب أفريقيا هو كون أغلب القائمين على هذه الشركات من أبناء البلاد والذين تلقوا تعليمهم فيها، بخلاف دول أخرى مثل كينيا التى تعتمد شركاتها الناشئة أكثر على الأجانب والمتعلمين بالخارج.

الجولات التمويلية تثبت كل يوم قدرة هذه الشركات على جذب الاستثمارات، البعض يرى فى ذلك حيوية مشجعة والبعض الآخر ينظر له كعلامة على أن السوق لا يزال ينمو ولم يصل بعد إلى درجة النضج، لكن فى كل الأحوال سيفاجئنا رواد الأعمال فى المنطقة العربية وأفريقيا خلال السنوات القادمة بأفكار ومشروعات تغير الكثير من المهن.

 

التعليقات