قاموس المُستَحِيِّين - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قاموس المُستَحِيِّين

نشر فى : الجمعة 19 يناير 2024 - 7:15 م | آخر تحديث : الجمعة 19 يناير 2024 - 7:15 م
كلَّما دَار حوارٌ حول الأوضاعِ الرَّاهنة، وتطرَّق إلى مَواقف بعض الحكوماتِ والبلدانِ العربيَّة مِن الحربِ الشَّرسة الدائرة في الجَوار؛ سَمعت مَن يؤكد أن أحدًا "لا يَستحي على دَمه". المعنى واضح لا يحتاج إلى تفسير، والقولُ دارجٌ يفيد وقاحةً لا تُنكَر، وتخاذلًا ظاهرًا لكلِّ عينٍ ترى وقلبٍ يستَبصِر.
• • •
الاستحياءُ في قواميس اللغة العربية هو الشعور بالخَجَل، والفعل استَحَى واستَحيا أما الفاعلُ فهو المُسْتَحِيُّ، والمُستَحِيُّ مُرهَفُ الحِسّ، يُراعي مشاعرَ مَن يتعامل معه ويتجنَّب إيذاءَها، وثمَّة معنى إضافي فإذا استحى المُنتصَر أسيرَه؛ تركَه على قيد الحياة.
• • •
الخَجَل اضطرابٌ لوافرِ الحيَاء، والعينُ التي تهرَبُ من لقاء أعين أخرى وتتجنَّب المُواجَهة؛ قد تكون لشخصٍ حَييّ خَجول، يتحاشى بطبعه الغُرباء ويتوتَّر من إجراءاتِ التعارف واحتمالاته، وقد تكون لمُخطئ آثمٍ يخشى أن يلمحَ الناسُ في وجهه ما يفضح أفعاله، وقد تكون كذلك خوفًا من الإدلاءِ بخَبرٍ سَيّء لا يُريد أحدٌ سماعه. يهربُ كثيرون في هذه الأيام الصَّعبة من أحاديثٍ ثقيلةٍ على النَّفس؛ يخجلون من عَجْز مُقيم، ومن تقاعُس عن نُصرةِ المظلومين، ولا يجدون حجَّةً مقبولة؛ ليس إلا كلمات جوفاءَ وبيانات صماءَ تناشد من لا فائدة منه ولا أمل.
• • •
الحمرةُ التي تغزو الوجنتين، والصَّوتُ المُتلعثِم الذي يكتنفه إحجامٌ وتردُّد، والكلماتُ التي تجاهد كي تتركَ فمَ صاحبها في صورةٍ مفهومة؛ كلها مظاهرٌ مَعروفةٌ تشي بالخَجَل، وإذا خَجِل المرءُ نظر أرضًا فإن اشتدَّ به الإحساسُ ولم تُجْدِ مُحاولاتُ السَّيطرة عليه؛ فضَّل أن يُغادرَ مكانَه وأن يَهرَب مِن المَوقف بأيّ وسيلة؛ فإذا لم يتمَكَّن، لَحظ مَن حَولَه حالَه وأدركوا أن الخَجَلَ يقتله؛ وفي فِعل القَّتل وَصفٌ دقيق.
• • •
يَخجَل بعضُ الأطفالِ من التوَاصُل مع زملائِهم ويُفضلون الانطواءَ، قد يتعرضون للسًّخريةِ والاستفزاز، أو يجدون مَن يَمدُّ لهم يدَ العَونِ والمُساندة؛ إلى أن يتمكَّنوا من التعامُل ببساطةٍ وانطلاق، ولقد دَرَج بعضُ أصحابِ المكانةِ إذا ما تلقوا المَديحَ على الرَّد: أخجلتُم تواضعَنا. ثمَّة مَن يَستَبصِر مَوضِعَه وقدرَه، ومَن يَعي تماديَ المَادِح في قولِه، وثمَّة تافهٌ يَستزيد مادحَه ويَطرب لقصائدِه ويَنتَشي.
• • •
يُقال في العادة رفعُ "الحَرَج" لا "الخَجَل"، كذلك يُقال منعًا "للإحراج" لا "للإخجال"؛ ومِن الشائع أن تُرى لافتةً تُحذّر الباحثين عن مَكان: مَمنوع تَرك السَيَّارة أمام بابِ المَرأب منعًا للإحرَاج. في بعضِ الأحوالِ تتنحى هيئةُ المَحكمة عن نظرِ قضيَّة ما؛ بدعوى استشعارِها الحَرَج. ثمَّة أسبابٌ لتنحيها وثمَّة دوافع يكفلها القانون؛ منها الخصومةُ السابقةُ والقرابة.
• • •
يُقال إن ليس على المَريضِ أو الصَّغير حرجٌ؛ والمعنى أن كليهما مَعفيٌّ من واجبات يُكلَّف بها مَن سواهما، ومَن لا يَحوزُ عذرَيهما. الصحيحُ والناضجُ يدركان واقعَيهما ويملِكان أمريهما، ولا يُمكن التسامُح معهما ما قصَّرا في أداء المَطلوب؛ لكن التَّقصيرَ بات قاعدةً والوفاءَ بمنزلة استثناء.
• • •
مضى زمنٌ كان المرءُ يَطلبُ فيه ما يريد بشيءٍ من الُّلطفِ والحَياء. زمنٌ عَرِفَ العِبارةَ التي تبدأ بتمهيد من قبيل "مِن فَضلِك"، و"إذا سَمَحت"، و"بعد إذنِك". اختفت المُقدماتُ، بل وحتى التحياتُ العاديَّات مثل صباح الخَير، ويُسعد صباحك قد توارت واختبأت، وحلَّ محلَّ هذا كله خطابٌ مباشرٌ حاد: ثلاثة أرغفة بلدي.. خذ جنب، وسع يا أستاذ.. واحد فول وواحد طعمية.
• • •
السِتُّ المُستَحِيَّة نباتٌ جميلٌ مُتعدد الأنواع، له زهرةٌ ورديَّة اللون، تنطوي أوراقهُ ما إن يتعرض للمْسٍ أو حرارةٍ، وقد امتدَّت زراعتُه مِن مَناطق استوائيةِ الطَّقس إلى أخرى، وتوجد بعضُ أنواعِه في أسوان وتحديدًا بجَزيرةِ النباتات، ويُقال إن انغلاقَ النباتِ وانكماشِه هو ردُّ فعلٍ يدافع به عن وُجُوده.
• • •
إذا كَسَف الواحدُ آخرًا فقد ردَّه خائبًا، أما إذا انكسفت الشَّمسُ فظاهرةٌ طبيعيَّة، تشير إلى غيابِ وَجهِها المُضيء بسبب وجودِ القَّمر بينها وبين الأرض. الكُّسوف هنا تعبيرٌ مَجازيٌ طريف يكني الانطفاءَ الوقتيّ، وكأن الشَّمس تحتَجِبُ خجلًا؛ وقد أدَّت شادية "مَكسوفة منك" على ألحان بليغ حمدي؛ فكانت من أخفّ الأغنياتِ وأكثرها انتشارًا.
• • •
هناك مَن يسألُ المُساعدةَ على استحياءٍ كما لو لم يَكُن له فيها حقٌّ، ومَن يراها حقًا لازمًا لا بد وأن يَحصُلَ عليه. بعضُ الأشخاصِ يتسوَّلون وأبصارهم شاخِصةً في الأرض، وبعضٌ آخر يقتحمُ على المارةِ مَساحة خصوصيَّتهم ويَخرقها بعنف، وبعضٌ ثالث يُمثل أدوارًا مِن الخَجَل والاستِحياء؛ تكاد الدمعةُ تفرُّ من عينه سائلًا جُنيهاتٍ قليلة يعود بها إلى بيته؛ وبين هذا وذاك تتوه الحقيقةُ وتختلطُ على الناسِ الأوراق.
• • •
الوقتُ الحَرِج يُفيد حَتميَّة التصَرُّف في سُرعةٍ ودِقَّة واتخاذِ المَطلوب مِن قراراتٍ وتنفيذِها دون إبطاء، أما الكتلة الحرِجَة؛ فمصطلح فيزيائيّ يشير إلى حالٍ من التوازُن بين إنتاجِ النيوترونات وهروبها، بما يجعل الطاقةَ ثابتة.
• • •
لم تَستَحِ حكوماتُ الغَربِ التي طالما ادَّعت أنها حاميةُ حقوقِ البَشر راعيةُ الإنسانية؛ أن تقف مَوقِف الداعم للمُعتدي في حربٍ جائرة، يتعرَّض فيها مئات آلاف الناس للقتل والتنكيل، والمأثور الدينيّ يقول: إذا لم تستحِ فاصنَع ما شِئت؛ والقَّصدُ ألا رادع في الكَّون أعظم مِن ضَميرِ المَرءِ وإحساسِه؛ فإن لم يكُن في أيّهما حَكَمًا على تصرُّفه وفَعيله؛ تمادى في غِيّه وما تراجع أبدًا.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات