حَـــشَر - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 10:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حَـــشَر

نشر فى : الجمعة 18 أغسطس 2023 - 7:30 م | آخر تحديث : الجمعة 18 أغسطس 2023 - 7:30 م
أذكر في أيامِ الطفولةِ أن كانت هناك أرديةٌ أفضّلها عن غيرها، أكبَر وتبدو صغيرةً، أستعملها بإصرار وأحاول أن أحشُر فيها جسدي عنوةً، أتمسَّك بها في عنادٍ غريب؛ لكنها لا تتسِع ولا تَستجيب. أبقيتها فترةً في الصوانِ، يَسُرُّني مرآها ولا أفرط فيها، إلى أن مرَّ الزَّمنُ وباتت في حكمِ الماضي المُضحِك، وأخيرًا ذهبت إلى أصحابِ النَّصيب.
• • •
يأتي الفعلُ حَشَر في قواميس اللغة العربية بمعنى جَمعَ وحَشدَ، الحاشر هو الفاعلُ والمفعولُ به مَحشُور، والمَصدر هو الحَشْر، وكثيرًا ما نُضيفُ حرفَ النون لنجعل الفعل لازمًا؛ فإذا انحشر المرءُ بنفسه، لم يعد بحاجةٍ إلى مَفعولٍ به.
• • •
غالبًا ما تُوحي الكلمةُ بضيقِ المكان؛ وغالبًا ما تقفز إلى الذهنِ صورٌ مُتعددةٌ للمُواصلاتِ العامة التي يُحشَر فيها الناسُ، ولطوابيرِ الجَّمعياتِ، وأمام التخفيضاتِ والعروضِ التي صارت تحظى بإقبالٍ مُتزايد مع تدهوُر الأحوال، أما عن عرباتِ الأُجرة التي غَدت وسيلةً بديلةً لنقل التلاميذِ بعدما تصاعد رسُوم الحافلاتِ المَدرسيَّة، وتحوَّلت إلى رفاهة لا قِبَل بها لكثيرين؛ فمجالٌ آخرٌ للحَشْر. يَجلسُ طالبٌ فوق آخر، ويُحشَر واحدٌ بين زميلين، وتظهر أرجلٌ وأيادٍ وحقائبُ بلا صاحب؛ حتى ليصبح المَشهد أشبه بقَفصِ دجاجٍ، يَعجُّ بأصواتٍ وصيحاتٍ لا يُعرَف مَصدرها. لا تُفلِت العرباتُ الخاصةُ من حَشر ما يَفوق سعتِها من البَشرٍ هي الأخرى؛ فقد يُستخدَم صندوقُها الخلفيُّ في استضافةِ نفرٍ أو أكثر، وقد يجلسُ واحدٌ على حافةِ النافذةِ المفتوحة ويقفُ آخر مُخترقًا السَّقف. لا يُهمُّ العدد ولا يُلقى بالٌ للعواقبُ، إنما الهدف أن ينتقلَ الناسُ إلى مقاصدِهم في الوقتِ المُحدَّد وبأقلِ التكاليف.
• • •
ثمَّة من يحشُر نفسَه فيما لا يعنيه، أو يحشُر أنفَه فيما لا يخصُّه، والتعبيران مترادفان، أما الحِشَريّ بكسر الحاء وتشديد الياء؛ فهو هذا الشخصُ دائم التدخُّل في مواضيع لا يرغب الآخرون بجعله شاهدًا عليها. تمثل المُفردةُ اشتقاقًا يغيبُ عن المَعاجمِ والقواميس؛ لكنه واسع الاستخدامِ وافر الحضور، فلا أكثر مِن الحِشَريين في حيواتنا، ولا أسخفَ من السَّاعين لفرضِ أنفسِهم علينا، وإذا كانت مجتمعاتنا لم تزل تتسم بوجود روابط خفيَّة، تُبيح اختراقَ الحدودِ الخاصَّة بين الأشخاصِ الغُرباء؛ فكثيرًا ما تتحوَّل هذه الروابط إلى أداةِ إيذاءٍ بدلًا من مَصدر أمانٍ وألفة.
• • •
إذا أصَرَّ الواحد على ذكرِ أشياءٍ لا علاقة لها بحوارٍ دائر، ولا صِلة تربطها بالمَطروح بين المُتكلمين؛ فغالبًا ما تكون لديه نيةٌ مُبيَّتة، ورغبةٌ مُلحة في الدفع بأمورٍ تُهمه؛ تحرضُه على انتهازِ أيّ فُرصةٍ مُتاحة لحَشرِ ما أراد، وجعلِه تحت أنظارِ الناسِ ولو كرهوا.
• • •
ربما انحشر الكلامُ في الزور، والمراد من هذا التعبيرِ الطريفِ أن يُدللَّ على ثِقلِ القَولِ وصعوبة النُطق به؛ بعض المرات يكون مُحرجًا وفي أخرى يكون مُسيئًا أو فاضحًا لما لا ينبغي كشفه، وقد يحملُ مُصيبةً من المصائبِ يتعذَّر إبلاغُها ويخشى المرءُ وقعَها وأثرَها؛ وإذ يحاول أن يُدلي بما في جعبته متوخيًا الحذرَ؛ فإن الكلام قد يتعسَّر على لسانِه ويبقى مَحشورًا داخل جَوفه.
• • •
قد يَنهَى واحدٌ الآخرَ عن الوساطة بين طرفين يتشاحنان؛ ينصحه بألا يحشُر روحَه بينهما، والمهم ليس من يكونان أو ماذا يفعلان أو لماذا يختلفان؛ بل هذا المجاز اللطيف، فليس في مقدور امرئ أن يُمسكَ بروحه ويحشُرها، لكن بلاغة القول تصنع الكثير، وإذ نتفنن في استخدامها ونتركها تتسلل إلى معظم أقوالنا وأحاديثنا؛ فإن الروحَ قد تُحشَر وتتدخَّل وتمارس دورًا لا يُمكن إنكاره. ينتهي الأمر وديًا في غالب الأحيان، ويُقال حينئذٍ لمَن حَشَر نفسَه أو روحَه: يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا دمعتها.
• • •
أكثرنا مرَّ بموقفٍ حاول فيه أن يَحشُرَ ملابسَه داخل حقيبةٍ صغيرةٍ؛ لا تَسع نصفَ الكمية التي أعدَّها واعتزم أن يرصَّها، يضغط هنا ويكبسُ هناك ويُعيد الفردَ والطيَّ؛ إلى أن يتحقَّقَ له ما أراد. الحاشرون حوائجَهم وأغراضَهم هم في العادة من النساء؛ إذ جرى العرف بأن يصحَبن معهن محتويات الأدراجِ والأصونةِ كاملةً، وأن يعتقدن في احتياجهن للمزيد.
إغلاقُ الحقيبة عملٌ مهمٌ جليل، والاتكاءُ عليها والقعود فوقها واستخدامُ الرُّكبة والقدم وما تيسَّر في المُحيط؛ كلها أساليب مجربة معروفة؛ لكنها قد تفشل بعض المرات، ولا يكون من حلّ سوى تخفيف الحَمل واستبعاد بعضِ المحتويات.
• • •
يُلاحظ في الآونة الأخيرة حَشر مفهومِ "الوَطن" وما يرتبطَ به من قيمٍ ومبادئ نبيلة في كلّ مَوضِع ومكان؛ بين كلماتِ التصريحاتِ والإعلاناتِ واللافتات، وسطَ أعمالِ الدراما والفنّ، داخلَ كلّ خطابٍ ومَقالة وحوارٍ وتحقيق. لا ينجو من هذا الإقحامِ إلا القليل بهدف استحضارِ العزيزِ الغاليَ في مُحاولةٍ لإضفاءِ القيمةِ؛ لكن التظاهر لا ينفع في كثير الأحوال، ولا شك أن مسلكًا كهذا من شأنه الإخلالِ بالمَوازين، وإصابة الوعيِ بالتشوُّه والارتباك.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات