ماسح الأحذية وابنته - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 3:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماسح الأحذية وابنته

نشر فى : السبت 17 ديسمبر 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 17 ديسمبر 2022 - 8:10 م

تسترجع دوما مقولة أبيها وهى تنظر إلى الأرض خلال ممارسة عملها اليومى فى أحد المراكز التجارية متعددة الطوابق: «يمكنك معرفة الكثير عن الأشخاص من خلال أحذيتهم». تتذكر تفاصيل تنظيراته حول المارة، وقد ظل ملازما الرصيف نفسه بوسط البلد لمدة أربعين عاما كاملة: «بويا يا بيه؟ بويا يا أستاذ؟». يلمع أحذية كل من هب ودب، وعندما يسألها أحدهم عن مهنة والدها فكانت تفضل وصفه بأنه «صاحب صندوق ورنيش».
دارت السنوات واشتغلت هى نفسها بالمول الحالى. وأوقعتها القسمة والنصيب فى وظيفة ترتبط أيضا بالأرض.. تنظفها ذهابا وإيابا بممسحة مُلمِعة، «شرشوبة» كما تسميها ربات البيوت، وهو ما جعلها لا تكف عن مراقبة الأحذية والارتكان إلى خبرات أبيها بهذا الصدد، مع بعض الإضافات.
فى الخلفية تنطلق أغنية «أيظن» بصوت عبدالوهاب مرددا «ما أحلى الرجوع إليه.. ما أحلى الرجوع إليه»، وكأنه يتحدث عنها، يسخر من قدرها الذى ربط عائلتهم بمهن تتعلق بالتلميع، وإن اختلفت أنواع الخِرَق التى يستخدمونها. تضحك، وتكتفى بقول إن من استلم الوردية صاحب مزاج، ثم تستمر فى محو آثار الأقدام من على بلاطات الجرانيت على أنغام الموسيقى، وتُكيف حركاتها معها.
• • •
تتذكر كلمات أبيها حول معرفته للزبون من حذائه، إذا كان ميسورا أو لا، إذ كان يمتلك سيارة أو يمشى كثيرا على الأقدام، لديه العديد من الأحذية أم ينتعل الجوز نفسه يوميا، له ذائقة كلاسيكية أم يحب مجاراة الموضة، حتى طريقة مشيه.. أما هى فقد صارت خبيرة بهذه النقطة الأخيرة، وقع الخطوات إلى جوارها ومن خلفها يجعلها تتنبأ بسلوك الأفراد وخصالهم: هذا واثق من نفسه، وهذا فى عجلة من أمره، وهذا مرتعب، الأرض تضحك تحت رجليه أم تبكي؟ كما صارت خبيرة بماركات الجوارب وتهوى الجلود مثل أبيها، فى حين هى لا تلبس سوى شبشب بكعب فلين لا يُحدث صوتا عندما تمشى، فلا يشعر بها أحد ولا يُلاحظ وجودها وسط المحلات المتفرقة هنا وهناك.
ترقص فى مكانها كأن لا أحد يراها، مثلها مثل والدها الذى كان قابعا على رصيفه، متصالحا مع مهنته، لم يشعر قط أنها تحط من كرامته، بل اعتبر نفسه من ملامح المدينة وجزءا من عاداتها.. مدينة متربة والناس تحب أن تظهر بكامل أناقتها رغم كل الظروف، وبالتالى هو له دور فى الحفاظ على المظهر العام. ينصح الزبون أحيانا بأن يكف عن شراء الجديد من الأحذية، فإذا اعتنى بما لديه قد يعيش معه عمرا مديدا!
تعلم أصول تنظيف الأحذية على يد الأرمن والإيطاليين فى مطلع القرن الماضى. الأوروبيون هم من أدخلوا الشغلانة إلى مصر، لكن مع الوقت اختفت فى بعض دول القارة البيضاء وأصبح ينظر إليها بطريقة دونية. قال له أحد الزبائن، خلال مناقشة عابرة، إن الولايات المتحدة لا يزال بها العديد من ماسحى الأحذية، بخلاف دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا حيث مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية، أما فى ظل الرأسمالية الأمريكية، فلا عيب أن يجلس ماسح الأحذية عند أقدام الآخرين طالما فى ذلك فرصة لصعود السلم الاجتماعى وتحقيق حلم الثراء.
لم يفهم كثيرا كل ما ورد على لسان الزبون، لكن حديثه ذكره ببداياته حين قرر أن يستقل ويعمل لحسابه الخاص، ترك وظيفته الثابتة فى أحد محلات تصليح الأحذية. كان عمره وقتها ثمانية عشر عاما، اختار لنفسه رصيفا وجعله مقره الدائم، يصل إليه كل يوم فى التاسعة صباحا ولا يتركه إلا بعد غروب الشمس، فهو لا يحب العمل مع المتسكعين ليلا، ويسكن بعيدا.
• • •
فى السنوات الأخيرة، قرر التوقف عن مزاولة المهنة، إذ قل عدد الزبائن تدريجيا مع انتشار الورنيش الجاهز واسفنجات التلميع، كما أن الكار لم يعد كالسابق. جذب العديد من العاطلين والبلطجية والمتسولين الذين لا يفهمون شيئا فى كيفية الإمساك بقطعة الصوف ولا فى آداب نفض الغبار بالفرشاة المصنوعة من ذيل الحصان. احتفظ فى بيته بواحدة قديمة، وثبتها بالصندوق الخشبى الذى صاحبه طيلة حياته.
دفعه إلى الاعتزال واقعة حدثت أمام عينيه، حين قتل ماسح أحذية زميله بسبب مكان الجلوس فى الشارع، طعنه بمطواة وفر هاربا.. حتى وإن ألقت الشرطة القبض عليه لاحقا، فقد رأى فى تلك الحادثة إشارة أنه لم يعد له مكان وأن عمره لا يسمح بالدخول فى شجارات مماثلة.
تزامن قراره مع وجود فرصة عمل لابنته داخل سوق تجارية كبيرة بأربع واجهات مطلة على الشارع، ظهر الأمر وكأنها هى من ستحمل لواء التلميع والتنظيف من بعده فى العائلة. لَفَت شعرها بإيشارب أخضر باهت معقود إلى الخلف، تفلت منه أحيانا خصلة كستنائية. ارتدت الزى الرسمى للوظيفة وانتعلت صندلا جديدا. صارت جاهزة لتولى المسئولية.
كُتِبَ عليهم مراقبة الأقدام وهى تسير، وها هى تفعل ذلك منذ سنوات. تتشبث بالأرض كى لا تنزلق وتقع على سطح الجرانيت الأملس. تُحكم قبضة يدها على الممسحة. تفكر فى السنة القادمة، لكنها لا تبدو منزعجة رغم كل المؤشرات السلبية، فقد مرنت نفسها على الأمل.

التعليقات