ماكرون: عندما أدرك الرئيسُ أن الشعبَ يكرهه - داليا سعودي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 1:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماكرون: عندما أدرك الرئيسُ أن الشعبَ يكرهه

نشر فى : الإثنين 17 ديسمبر 2018 - 11:25 م | آخر تحديث : الإثنين 17 ديسمبر 2018 - 11:25 م

لم تكن محض أزمة اقتصادية تلك التى أسفرت عنها احتجاجات «السترات الصفراء» فى مدن فرنسا. كانت المطالبات الاقتصادية هى كبرى الحمم التى قذف بها بركانُ الغضب. لكن فى الأعماق، تحت ركام الرماد البركانى، تمازجت عوامل أزمة مركبة: اجتماعية وسياسية وديمقراطية، أدت إلى ما أظهرته الشوارع من غضب خارج عن كل إسار. وفى القلب من هذا الغضب، بدت مشاعر الكراهية المتنامية للرئيس إيمانويل ماكرون مباغتة لمن لم يتابع المشهد منذ البداية.
***
«چوپتر» هو ملك الآلهة فى الميثولوجيا الرومانية ونظير «زيوس» فى الميثولوجيا الإغريقية. وهو اللقب الذى أطلقته الصحافة المتهكمة على ماكرون منذ أعلن فى أكتوبر 2016، أثناء حملته الانتخابية، أن البلاد تحتاج إلى رئيس من قامة «چوپترية» من أمثال شارل ديجول وفرانسوا ميتران، لا إلى رئيس عادى فى إشارة إلى الرئيس السابق فرانسوا أولاند. لكن يبدو أن الاستعلاء الذى حملته الإشارة واكتنز به المجاز قد طغى على صورة ماكرون العامة مع الأيام وهو يحيط نفسه بأبهة الحكم، ويرتسم بسمت العظمة، ويدبج الخطابات المفخمة الناطقة بفكر يعلو فوق فهم العامة، ويتخذ تباعا حفنة من القرارات الاقتصادية الصارمة التى لم تلتفت إلى أنين الشارع. بالتأكيد كانت هناك أيضا زلات لسان أساء بها الرئيس إلى المعترضين على سياساته، وكان هناك اهتمامٌ غير عادى بتحرير الاقتصاد على حساب المواطن، وكان هناك تشكك فى السياسة الخاصة بالموازنة التى تتبعها الحكومة أكدتها النتائج الكارثية على القدرة الشرائية لمحدودى الدخل، وكانت هناك حالة من الانفصال الفكرى والإعلامى عن أشواق الشعب وآلامه. لذا كانت الكراهية التى تبدت فى احتجاجات السترات الصفراء أكبر من كل تصور.
كراهيةٌ سوداء استهدفت شخص ماكرون بصورة أعتى من أى عاصفة هبت على شعبية أى رئيس قبله، تدفقت مثل النزيف الحاد معلنة عن جراح عميقة فى الجسد الوطنى، وتحولت معها المطالب الاقتصادية الأولى إلى مطالبة بعزل الرئيس، وإلى حرق مقار نواب حزبه، حزب الأغلبية، وإلى حمل صورته وقد شُبهت ملامحه بملامح الملك لويس السادس عشر الذى أعدمته الثورة الفرنسية فى 1789، بل أفضى شطط الخصومة إلى جمع توقيعات من الشعب لتفعيل المادة 68 من الدستور الفرنسى الخاصة بآليات إقالة الرئيس أمام المحكمة العليا.
وفيما كرة النار تزداد اشتعالا، كان ماكرون فى قمة العشرين بالأرجنتين، منشغلا باستكمال مبارزاته السجالية مع الرئيس الأمريكى، منهمكا فى أحاديث المال والأعمال، ملتفتا لطموحاته الأوروبية الكبرى ورؤاه المناخية الطموحة، مكتفيا بكلمةٍ تحذيريةٍ صارمةٍ للداخل الملتهب، وبتصدير رئيس حكومته فى مقدمة المشهد للقاء ممثلى «الحركة» المحتجة. الأمر الذى عزز صورته المتعالية فى عيون الشعب. فما إن عاد إلى أرض الوطن، ولم يسترح بعد من وعثاء السفر، حتى فوجئ بحجم الكراهية التى أطلت برأسها حين فتح زجاج سيارته ليحيى جموع الناس أمام أحد المقار الحكومية المحترقة فى يوم سابق.
فما الذى حدث؟
***
لم يكن «چوپتر» مكروها فى البداية. لم يكن يُلقب بـ«رئيس الأغنياء» حين قدم إلى الحكم، بل كان يُعرف بـ«موتزارت المالية». ولم يكن رئيس حكومته يحل محله على منصة الحديث إلى الناس، ولم يكن هو يرتكن إلى صمتٍ طويل كذلك الذى دخل فيه طوال احتدام الأزمة، معللا تواريه بعدم رغبته فى «سكب الزيت على البنزين» فى مظاهرات لم تعد فيها الضرائب على المحروقات سوى واجهة معلنة للتنفيس عن يأسهم الغاضب. كلا، لم يكن ماكرون يصمت أو يتوارى. فقد عُرِف فى عام حكمه الأول بلقاءاته التى يلتحم فيها بالجماهير فى الشارع وفى الأحياء الشعبية وفى المناطق الريفية وفى الأقاليم الفرنسية عبر البحار. كانت له قوة تأثير مشهودة، وقدرة فذة على الإقناع تُخرجه رابحا من أشد النقاشات توترا بين الناس. لكن ها هى جموع السترات الصفراء تسد عين الشمس فى مشهد كابوسى لم يخلُ بالنسبة له من لحظة استنارة.
فما الذى حدث؟
ما حدث من الناحية النفسية الاجتماعية هو أن هذه الكراهية ليست سوى الوجه الآخر من خذلان المحبة. فهذا الرئيس الشاب كان الكثيرون ينظرون إليه على أنه «منارة شابة انطفأت» على حد تعبير أحد المقربين إليه فى القصر. وما تلك البغضاء المستشرية باللون الأصفر سوى تعبير عن الثقة المخذولة فى رئيس بدا فى الساعات الأولى كمنقذ طموح من خارج المؤسسة السياسية المتهالكة. لكن مسئولية هذا الانطفاء لا يمكن لعاقل أن يعزوها لشخص الرئيس وحده.
ففيما يتعلق بمسئوليته الشخصية عن هذه الكراهية الشعبية، حدث أن تمازجت فى مسلك ماكرون خطيئتان: التعالى والتعامى.
أما التعالى فقد تزايدت وتيرته فى الشهور الأخيرة، حتى أشار إليه «جيرار كولومب» وزير الداخلية السابق قبيل استقالته، مفضلا العودة لمنصبه السابق كعمدة لمدينة «ليون» على البقاء فى منصبه المهدد باقتراب العاصفة التى كان يبصرها ويأبى رئيسه أن يراها.
وأما التعامى فتمثل فى قصور ماكرون عن إدراك حقيقة أنه لم يكن مرشح كل الفرنسيين، وعن أن اختياره جاء دفاعا عن البلاد من خطر وصول مارين لوپن العنصرية الشعبوية إلى الحكم. ففى الحقيقة، كان ماكرون هو الاختيار الذى فرضته الضرورة، لكنه تعامى عن إدراك ذلك، فلم يحاول أن يوسع قاعدته الشعبية خارج نطاق دائرته الانتخابية الحقيقية، وترك الفرنسيين على ميمنته وميسرته دون أن يجذبهم إلى دائرة الوسط التى وعد أثناء حملته بأن تكون باتساع الوطن. واكتفى بتحويل الجميع من فاعلين محتملين إلى مشاهدين صامتين، بل واستعدى الكيانات الوسيطة بينه وبين الشعب من نقابات، وعمداء، وبلديات، ومحليات، منخدعا فى قدرات الأغلبية البرلمانية التى حققها حزبه.
***
إن مسئولية ماكرون عن هذه البغضاء المحتدمة قبل أن يتوجه إلى الفرنسيين بخطابه الأخير تتركز فى كونه قد خلق بمسلكه بيئة حاضنة لخطاب الكراهية الذى لم يكل خصومه السياسيون الانتهازيون عن توجيهه إليه، لاسيما وقد احتفظوا بقاعدة شعبية منذ انتخابات مايو 2017، حين حصلوا مجتمعين فى الدور الأول على نحو نصف الأصوات.
لقد كان مسلك ماكرون سببا فى تأجيج حالة وصفها المفكر الفرنسى ألان دواميل بأنها حالة من «التطرف الزاعق»، يبدو فيها الجميع ضد الجميع على الساحة السياسية، وتحتقن فيها الحالة الديمقراطية، ويغيب عنها الحوار على جميع الأصعدة، وتستيقظ فيها من سباتها النزعة الفرنسية القديمة المسارعة إلى الانقسام والتنازع والخصومة، المتوارثة على مدى تاريخ فرنسا الثورى، حتى باتت فرنسا 2018 أشبه على حد تعبير المُنظر السياسى «أشبه بجسد كبير جريح أنهكته الكسور...».
***
ثم تكلم ماكرون... بعد طول صمت، اكتفى بثلاث عشرة دقيقة عوضا عن مطولاته البلاغية المعهودة. تحدث ببساطة وتواضع، متنازلا عن قداسته «الجوبيترية»، متخففا من مساحيق الوجه واللسان. ثلاث عشرة دقيقة، مليئة بالترضيات النفسية التى يجيدها الخطيب الماهر. لا أتناول ما جاء بها من إجراءات اقتصادية، يعلم الكثيرون أنها بعدُ قاصرة، وأنها صعبة التحقيق إجرائيا، وأنها لا تغطى جميع المتضررين. المهم أنه اعتذر للشعب عما بدر منه من تعامٍ وتعالٍ، ومن زلات لسان جارحة، ومن إغفالٍ لرؤية الحرائق المجتمعية وهى تشتعل. كانت نبرته اعتذارية أكثر منها تبريرية، يقر عبرها باستمداد شرعيته من الشعب وحده، ويعلن حالة الطوارئ الاقتصادية والاجتماعية فى البلاد. لم يكن الخطاب رديفا لعبارة «لقد فهمتكم»، على طريقة ديجول، ولا على طريقة بن على، ولم يكن مراوغا على طريقة «لم أكن أنتوى الترشح..». كانت مصارحة ذهبت لأقصى حدود الصراحة والاعتذار، ولم يبق لتمام اكتمالها سوى أن يصدقها العمل.
***
فى السبت التالى لكلمة الرئيس، كان عدد الخارجين بالسترات الصفراء فى الشوارع قد نقص النصف تقريبا. لكن أزمة الاحتقان السياسى ما زالت قائمة، ومازال الخصوم ينفخون فى الكير بهمة لإشعال مزيد من الحرائق، ومازالت كلمات الرئيس المفعمة بالإخلاص تنتظر ترجمة سريعة على أرض الواقع، لأن أى مراوغة ستكون وخيمة العواقب.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات