تَـــاه - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 8:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تَـــاه

نشر فى : الجمعة 17 نوفمبر 2023 - 7:35 م | آخر تحديث : الجمعة 17 نوفمبر 2023 - 7:35 م
بَحثت طويلًا عن جهازِ التحكُّم في التلفزيون، نَظرت على المناضِد والمقاعدِ وتحت الجرائدِ المَلقيةِ هنا وهناك؛ بلا طائل. جَثوت على ركبتيّ أنظر أسفلَ الأريكةِ ولم يكُن له من أثر؛ تاه وكأن الأرضَ قد انشقَّت وابتلعته. أخيرًا وبعد جَهد مُتواصِل؛ تبيَّنت أنه قابع في يد أحد أفرادِ العائلةِ من الجالسين في الحجرةِ نفسِها، وأن الأحداثَ الجِسام التي تتلاحقُ على الشاشةِ قد أفقدتنا التركيزَ وأتاهت عقولنا؛ فبتنا نفتش عما نحملُ، ونسأل عما نرى؛ وكأننا لم نعد ندرِك بحواسنا سوى ما يَجري على مَبعدة كيلومترات مِن الحدود.

• • •

يأتي الفعلُ تاهَ في قواميسِ اللغةِ العربيَّة بأكثر مِن مَعنى، فإذا تاه الواحد عن المكان؛ كان القَّصد أنه ضلَّ طريقَه وأضاعَ هدفَه، وإذا تاهَ على الآخرين؛ فالحالُ أنه تكبَّر وتَعالى. الفاعلُ تائهٌ والمَفعولُ به مَتُوهٌ عنه، والمَصدر توهًا وتوهانًا.

• • •

بَعضُ المرَّات يصمت المرءُ فجأةً وينقطع حديثُه، يُفكر مليًا فيما أراد قولَه؛ فيكتشف أن الكلامَ قد تاهَ منه. في مراتٍ أخرى يتشعَّب الحديثُ ويتفرَّع في مَساراتٍ جانبيةٍ كثيرةٍ ليتوه المُتكلم ذاته، ويَجد إذ فجأةً أنه قد ابتعدَ عن المَوضوعِ الأصليّ؛ بل ونسيَ أحيانًا مُحتواه. مِن الناسِ مَن يُسهِب؛ لكنه يتمكَّن من العودة لهدفِه بسهولة، ومِنهم من يَمضي في اتجاه غير الذي أراد.

• • •

في أوبريت الليلةِ الكَّبيرة، تتجوَّل المَرأةُ مُناديةً بصوتٍ رَخيم وحَزين: يا ولاد الحَلال بنت تايهة طول كِده رجلها الشِمال فيها خُلخَال زي ده"، الصَّوتُ للرائعةِ هُدى سلطان، والأوبريت من الأعمالِ الفنيةِ الخالدة التي لا تُنكَر قيمتُها، ولا يملُّ الواحد مُشاهدتها وسماعِها مَهما مرَّ عليها الوَقت. وَضع اللحنَ شديدَ التميُّز الراحلُ القدير سيد مَكاوي، وكتبَ الكلماتِ العبقريّ صلاح جاهين، أما العرائس فصمَّمها المُبدع الكبير ناجي شاكر.

• • •
في زَمنِ الطفولةِ كانت هناك أُحجيةٌ طريفةٌ نتسابق على حلِّها داخلَ المَجلاتِ المُصوَّرة؛ مَتاهةٌ مَرسومةٌ يُمسِك اللاعبُ بقلمه ليسيرَ بين خطوطها المُتشابكة المُعقَّدة؛ إلى أن يتمكَّن من الوُصولِ إلى هدفِه. انتقلت الُّلعبةُ من الوَرق إلى الفَضاء الإلكترونيّ واتخذَت صورًا مُتعددة، ثم تطوَّرت المتاهةُ أكثر فأكثر وتحوَّلت إلى بناء حقيقيّ مُجسَّد؛ يتوغَّل داخله اللاعبون ويحاولون الخُروج. ثمَّة متاهاتٌ للترفيه والتسلية وأخرى تبتلع الحياةَ في جَوفِها وتسلبها إرادةَ الفِعل والتغيير.

• • •

قد تظهر على المرءِ علاماتُ تشي عند مَن يعرفونه بتوهانِ العقلِ واضطرابه، منها الابتعاد اللاإراديّ عن مسار أيّ سؤال مَطروح إلى مسارٍ فرعيّ، ومنها اتخاذ طريقٍ موازيةٍ لا تعطي في النهاية جوابًا، منها كذلك الإفراطُ في اللَّفِ والدوران؛ رغم أن الإجابةَ لا تتطلَّب كثير الأحيانِ سوى جُملة بَسيطة قصيرة. لا تكمُن الأزمةُ في هذه الأعراضِ بمفردها؛ بل فيما قد يصحبُها مِن اختلالٍ في تقييم الأمور والحكمِ عليها؛ ، فإن حدث وتبوأ المعتلُّ موقعًا فاعلًا؛ توَّه مَن معه ونأى بهم عن الدربِ المَنشود.

• • •

قد تنشأ عِلَّةُ العقلِ بسبب زيادةٍ أو نُقصان في بعض الموَاد الكيميائية؛ التي تربك أيضًا الوظائفَ الإدراكيةَ العليا للمخ، ولا شكَّ أن الشفاءَ في بعض الحالاتِ وارد؛ لكنه ليس أكيدًا، والعبءُ الأكبر يقع على المحيطين بالمُعتل؛ إذ لم تزَل عقولُهم واعيةً قادرةً على تقديم المساعدة وبذل الرعاية الواجبة.

• • •

قد يتوه المَرءُ فعليًا ويَفقِد طريقَه، وما أكثر ما تضيع منا العناوينُ وترتبك الذاكرةُ في الآونة الأخيرة؛ فقد تبدَّلت الطرقاتُ وتعدَّدت فوقها الجُّسور ولم يَعد في خرائطِنا استواءٌ؛ بل مَطالع ومَنازِل لا أوَّل لها ولا آخِر. تكاثرت أيضًا المَلفَّات وتبخَّرت الميادينُ وغابت الخُطوطُ المُستقيمة؛ فغَدت المسافاتُ أضعافًا.

• • •

كتبَ نجيب محفوظ في أصداءِ السيرةِ الذاتيةِ: "سألت الشيخَ عبد ربّه التائه؛ كيف تنتهي المِحنةُ التي نعانيها؟ فأجاب؛ إن خرجنا سالمين فهي الرَّحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل"؛ وفي قولِه هذا سداد ونفاذ. يُقال في العادة عن هؤلاء السابحين في عالمٍ من الروحانيات، المُبتعدين عن ثِقَل الحياة اليوميَّة؛ لا يحملون همًا لمعيشتهم ولا يَسعَون إلى جاهٍ أو سُلطان؛ أنهم تائهون في مَلكوت الله، والحقُّ أن بعضَهم يَملِك رغم التوهان البادي؛ حِكمَةً وبَصيرةً لا يُدركها سواه.

• • •

التِّيهُ مكانٌ بلا علامة ولا دليل، تُطلقُ الكلمةُ على الصحراءِ مُترامِية الأركانِ التي لا يُعرَف فيها اتجاهٌ ولا تؤملُ منها نجاة؛ فإن ولجها امرؤٌ تعذَّر أن يخرجَ منها؛ إلا أن ينجدَه مَن تمرَّس بها وعرفَ الأثرَ وخَبَر الاتجاه.

• • •

إن تاه القطُّ فإنه لا مَحالة عائد؛ إذ له قدرةٌ فائقةٌ على تحديدِ المَعالم ومَعرفة المكان الذي عاشَ فيه وتعلَّق به. يُحاول بعضُ الناسِ التخلُّص منه ما ضاقوا بوجودِه في مُحيطهم، يأخذونه لمكانٍ بعيد ويتركونه وحيدًا مُتصورين أنهم نجحوا في إبعاده، وأنه نسيَهم ونسيَ مكانه، وإذا بالأيام تمضي، وإذا به يطرقُ البابَ كما لو كان راجعًا من رحلة استجمام.

• • •

إذا مال الواحد عن طريقٍ اتَّخذه لحياته، وانحرف بسيرته فسلك اتجاهًا مُعاكسًا لما رَسَم وارتضى؛ قال الناس إنه تاه ورثوا له وأشفقوا مِن مَصيره؛ فهذا الذي يفقد بوصَلته إنما يَفقد بعضًا من ذاته. قد تتوه المقاصد الأولى بين منغصات جمَّة تمتَصُّ الطاقةَ وتبددها، فيتحوَّل المرءُ من العمل على تجفيفِ مَنبع أزماته، إلى العَملِ على تخفيفِ أعراضِها، والحقُّ أن علاج العَرَضَ وحده يُمنى دومًا بالإخفاق، أما اجتثاثُ الجذور الفاسدة والإجهازُ عليها؛ فشفاءٌ أكيد.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات