ديما ماشي.. وديما على الله - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ديما ماشي.. وديما على الله

نشر فى : السبت 17 يونيو 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : السبت 17 يونيو 2023 - 9:15 م

بعد خمسة أيام من إطلاقها على موقع يوتيوب الأسبوع الماضى سجلت الأغنية الأحدث لفنان الراب التونسى بَلطى «ديما ماشى» نحو ثلاثة ملايين مشاهدة. الموسيقى التى لحنها بَلطى بالاشتراك مع اللبنانى جيمس حداد تدور فى أجواء مبهجة راقصة، وتتحدث كالعادة عن شباب «الحومة» أو الأحياء الشعبية الفقيرة التى ينتمى لها «الرابر» نفسه وقد وُلد فى المدينة العتيقة (القصبة) بتونس العاصمة. لذا هو يكتب كلمات تعبر دائما عن هذه الفئة، عن أحلامها المجهضة وسعيها للهجرة هربا من واقع مرير وسط ناس: «بيحكوا بالعفة، وهما اللى خلقوا الرذيلة»، كما تقول الأغنية. يحاول البسطاء أن يمرحوا ويفرحوا رغم كل شىء، أن ينعموا بالموسيقى ليتشبثوا بالحياة ويترجموا مشاعرهم من خلال الغناء وأحيانا شرب الكحول وتعاطى الحشيش (الزطلة بالتونسى) . تتردد إذا فى العديد من أغنيات بلطى مفردات مثل الزطلة (الحشيش) والحومة (الحى الشعبى) والحرقة (الهجرة غير الشرعية) والغرقى (غالبا أثناء عبور المتوسط باتجاه أوروبا) ، ويناجى الأم أو يستنجد بها لتنقذه ممن لا يتركونه فى حاله، بل يرغبون دوما فى «قص جناحه»، منتظرين فشله وخسارته، هو الذى «شرب المحيط»، ويتمنى أن يسامحه ربه معتذرا عما فعل، لكنه قابل أشكالا وألوانا من البشر خلال مشواره «الغدار والصباب والكذاب والملقوط والملقاط». هو أيضا «قلبه فلسطينى، ومخه عراقى»، كما يوضح فى إحدى أغنياته، وبوسعه أن يكون لسان حال أحد هؤلاء الذين ذهبوا للحرب فى سوريا، فى إشارة لعدد كبير من الشباب التونسيين الذين انضموا لصفوف داعش «اللى حبوا الجنة، واللى حبوا اليورو».
• • •
تسير دوما على هذا النحو أغنيات بَلطى التى تحقق أرقاما قياسية على اليوتيوب والمنصات الموسيقية المختلفة على مستوى العالم العربى، بل تعدى حدود هذا الأخير بفضل شراكات مع فنانين معروفين عالميا مثل مستر يو، مغنى راب فرنسى من أصل مغربى، وإليانا، مغنية وكاتبة وملحنة فلسطينية ــ تشيلية. يمزج موسيقى البوب الخاصة بالمدن والريجى والإن إن بى، يستخدم الغناء فى تلوين الراب لكى يصنع توليفة تونسية مميزة، تقارب التوليفة المحلية للمهرجانات وموسيقى التراب فى مصر. فى بعض أغنياته الأخيرة المصورة يصاحبه الأكورديون والإيقاع والجيتار وينضم إليهم الكمان أحيانا، كما لو كان عضوا فى فرقة موسيقية تتجول فى الشوارع لتروى حكايات أهلها. يرتفع صوته «ألو ألو.. ألو يا عمرى وينك، ألو يا شبابى وينك، ألو يالغالى وينك». وفى موضع آخر يروى بداياته ونشأته كمن يرسم صورة ذاتية، من خلال «صغرى أنا»: «الحكاية بدت بالضبط أفريل عام تمانين، جيت للدنيا نبكى بين ضحكة الوالدين»، فى إحالة لشهر وسنة ميلاده.
ظهر بَلطى، واسمه الحقيقى محمد صالح البلطى، فى مطلع الألفية الثانية كعضو فى مجموعة «أولاد بلاد»، ثم أصدر أول ألبوم له عام 2002. كان الوقت مواتيا لبزوغ نجم يتزعم حركة «الرابرز» الشباب. فيسبوك كان قد ظهر لتوه عام 2004، ولحق به يوتيوب فى 2005. وبالفعل كان لهذه المواقع وغيرها الدور الأكبر فى سطوع نجوم الراب، فى حين ترجع مسيرة بعضهم إلى الثمانينيات مثل الشادلى وسليم الأرنؤوط. الموجة الأولى من هذا الفن ظهرت تقريبا فى تونس بالتزامن مع فرنسا وتحت تأثير ثقافتها والهجرات، بعد نحو عشر سنوات من الولايات المتحدة الأمريكية. كان هناك إنتاج لأغانى راب تونسية طوال التسعينيات، ثم تطورت الحركة مع الإنترنت ثم الثورة، حتى صارت أغنيات الراب ضمن الأكثر استماعا خلال العشر سنوات الأخيرة، مع أنواع أخرى مثل «الراى» و«المزود» أو أغانى السجون التى تتصف بمحتوى لفظى جرىء ومتحرر من القيود.
• • •
هذا المحتوى الجرىء يجعل موقف الجمهور من أغانى الراب ملتبسا إلى حد ما، البعض يحبها لأنها تعبر عنه بواقعية، والبعض يرى فيها الكثير من السوقية والابتذال، ويقارنون بينها وبين الأغانى الملتزمة فى الستينيات والسبعينيات التى تحدثت أيضا عن الفقراء والهامشيين والقضية الفلسطينية والحرية والهجرة، لكن بشكل مختلف تماما وكلمات شعرية راقية تحمل أبعادا ثورية وقومية عربية وإنسانية. وقد ذاع صيتها وقتها فى الوسط الطلابى اليسارى والنقابى. أما حاليا فيعتبر الكثيرون الراب هو وريث هذه الأغنية الاحتجاجية، لكن بعبارات صريحة أو بذيئة أحيانا، تتسم بقدر كبير من الذكورية.
المستوى الآخر من الالتباس الذى يعترى الراب فى تونس هو موقفه من السلطة، وينطبق ذلك تماما على نموذج بَلطى. قبل ثورة 2011، قيل إنه محسوب على السلطة ونظام بن على أو على الأقل يحظى بالرضا، لأنه غنى فى حفلات أقامها الحزب الحاكم وأذيعت أعماله من خلال الراديو والتليفزيون الرسميين، وهو شىء غريب بالنسبة لفن قائم على الرفض وانتقاد الأوضاع القائمة. ومع ذلك تعرض للتوقيف من قبل الأمن بسبب أغنية لم يكن هو كاتبها، لكن الموضوع مر مرور الكرام. لذا أشار البعض إلى أنه ركن إلى حلول وسط وهادن السلطة إلى حد ما، وتم استبعاده قليلا بعد الثورة على عكس «الجنرال»، وهو رابر آخر كان لايزال طالبا فى كلية الصيدلة حين أطلق أغنية «رايس لبلاد شعبك مات» عام 2010. وانتشرت الأغنية بشدة على مواقع الإنترنت لفضحها الفساد وتعرضها لمشاكل البطالة والفقر، ما جعله ضمن أيقونات ثورة يناير خاصة بعدما سُجِنَ لأيام، واختارته مجلة «تايم» وقناة «سى إن إن» بين أقوى 100 شخصية فى العالم أو ضمن الأكثر تأثيرا. وقد طرح نسخة ثانية من الأغنية سنة 2014 ليندد بالأوضاع الماضية إلى الأسوأ.
• • •
كان هناك دائما جدل يعود ويختفى حول توظيف الراب للدعاية السياسية وابتعاده عن حاضنته فى الأحياء الفقيرة، وأحيانا استغلالها والاستفادة من الثورة للوصول إلى الخارج وركوب الموجة والانتشار فى أوروبا. لكن هذا الجدل لم يمنع هذه الأسماء من السطوع، فمثلا عاد بَلطى لتصدر قوائم الاستماع تدريجيا، وحقق نجاحات متلاحقة مع أغنية تطالب بوقف العنف (Stop violence)، تلتها أخرى عن الإرهاب، ثم ثالثة «يا ليلى» بمشاركة الطفل حمودة التى تجاوزت حد الـ700 مليون مشاهدة على يوتيوب، وهو أول مغنٍ عربى وإفريقى يصل إلى هذا الرقم، وكلمة السر هى دائما أحلام الشخص البسيط «اللى ديما ماشى، وديما مع الله»، والتى يعبر عنها بخليط من الكلمات التونسية والفرنسية والإنجليزية.

التعليقات