إذا كان ولابد.. فلا تبدأ بالماء - سلمى حسين - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 12:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إذا كان ولابد.. فلا تبدأ بالماء

نشر فى : الإثنين 17 مايو 2010 - 10:07 ص | آخر تحديث : الإثنين 17 مايو 2010 - 10:07 ص

 حسنا.. الموضة الآن ــ والأفكار موضات ــ أصبحت غير ما يروج له ويطبقه يوسف بطرس غالى وزير المالية المصرى. فإذا كان للأزمة الاقتصادية العالمية من حسنة، فهى رفع الحرج عن أى إبداع يولد خارج رحم العولمة الجديدة. لذا أتخيل غالى ــ مثل أى مؤمن حقيقى بأفكاره ــ فى وضع لا يحسد عليه. فهو وقت المواجهة مع النفس. مع العقائد والمبادئ. أكثر منها مواجهة مع الآخر.

لأن الآخر غائب فى مصر. فإذا قلنا أن لأى فكرة مضادة لها فى الاتجاه (وقد لا تماثلها فى القوة)، لفهمنا من هو الآخر. إذ لم تتكون هنا حركة اجتماعية مناهضة للعولمة والنيوليبرالية. لا فى الثمانينيات ولا التسعينيات ولا فى القرن الحادى والعشرين. وهكذا لم يصطدم غالى بأى مواجهة حقيقية عند إقرار أى قانون جديد فرضه أو يفرضه منذ تولى حكومة نظيف (وينطبق الكلام نفسه على القوانين والإجراءات النيوليبرالية منذ بداية التسعينيات، ولكن بدرجة أقل من السرعة والعمق). أما بقية بقاع العالم فكانت على النقيض، منذ منتصف التسعينيات.

كنا نرى أمام كل محفل عالمى محفلا عالميا مناهضا. اجتماعات البنك والصندوق الدوليين، اجتماعات منظمة التجارة العالمية، منتدى دافوس العالمى... دائما كانت هناك حشود بالآلاف، ذات ألوان زاهية ومتعددة، تنم عن تعدد المذاهب والأفكار والجنسيات. لا يجمعها إلا فكرة واحدة. صحيح مبهمة كدائرة ضوء من عود كبريت. لكنها مركزية: «لا لمزيد من التحرر الاقتصادى». كل له أسبابه التى قد تتعارض مع من يقف بجانبه على نفس الصف. ولكن الكل يتشارك فى نقل الخبرات، الكل ملهم لبعضه البعض.

ليست فى مصر تجربة كهذه بعد. ولكنها قد تبدأ فى السنوات القادمة، حين يأخذ القطاع الخاص على عاتقه إنتاج الماء النقى والكهرباء. هذا ما يقوله التاريخ الحديث. فمن ناحية، كانت دوما تنمو المعارضة الشعبية ضد القطاع الخاص بسبب التزايد المضطرد فى أسعار الماء والطاقة. كما يحتدم عادة الخلاف بين الشركات الخاصة والقائمين على ضبط هذه العملية (الحكومة). ونتيجة لما سبق تتشكل مرحلة البحث عن بدائل، كما سنرى لاحقا. أما الآن، لنبدأ القصة من حيث بدأها وزير المالية المصرى.

الفرضية دائما ما تكون حتمية اللجوء للقطاع الخاص، لأنه الأقدر على التمويل والأكفأ فى الإدارة. هذا ما يبدأ به غالى. فهو يؤكد أن العالم كله يلجأ للشركات العالمية الكبرى عن طريق عقود تسمح لها أن تمول وتدير المرفق الفلانى لمدة كافية لأن تغطى تكاليفها، وتحقق ربحا معقولا. والدولة حاضرة. ففى حالة المياه مثلا قد تشترى الحكومة المياه من المرفق الخاص، لتبيعه للمواطنين. و بناء على تلك الفرضية، كانت حتمية إقرار قانون المشاركة العامة ــ الخاصة، لتحديث البنية الأساسية فى مصر.

أثر الأزمة الاقتصادية
وإذا كان لنا أن نتفاءل أو نتشاءم بتوقيت القانون، فالتوقيت هنا كمثل غراب أسود طار إلى جهة اليسار!
لأن العالم يمر بأزمة اقتصادية عميقة، ولأن مع الأزمات الاقتصادية، يتضاعف احتمال أن «يخلع» القطاع الخاص، أى يسحب استثماراته قبل انتهاء فترة العقد، وفقا للبنك الدولى ــ رغم أنه من أقوى المشجعين على خصخصة المرافق.

ويقول إن انسحاب شركة ما يقوض ثقة المستثمرين الآخرين فى الحكومة. هذا والكثير غيره من الدروس المستفادة يمكن استنباطها من دراسة قام بها البنك الدولى عن «أسباب تخارج القطاع الخاص من مشاريع البنية الأساسية». فقد شهدت السنوات الأخيرة اتجاها متصاعدا من إلغاء العقود. وعلى الرغم من أن معدل خروج القطاع الخاص بقى منخفضا، إلا أنه تضاعف ما بين 2001 و2006.

وبما أن مصر أقرت مؤخرا أول قانون منظم للمشاركة العامة الخاصة فى البنية الأساسية، فاللطيف، أن الدراسة تؤكد أن جودة القوانين والمؤسسات المنظمة لعملية المشاركة لا تمنع خروج القطاع الخاص، كما أن الفساد لا يدفعه للخروج. إذا لم تضحكوا، فإليكم تلك الأحجية: ما هى المشروعات المعرضة التى يتخلى القطاع الخاص عن إكمالها؟

كلما طالت مدة العقد + كلما كبر حجم الاستثمار + كلما زاد حجم الاستثمار الأجنبى... باختصار، ابتسم أنت فى مصر. فكل تلك المعايير تنطبق تماما على قطاع المياه والصرف. نفس القطاع الذى اخترنا أن نبدأ به عقود مشاركة بين القطاعين العام والخاص فى مصر. حيث تم توقيع أول عقد لمحطة تنقية مياه (قبل إقرار القانون). وجار اختيار أصحاب النصيب فى مشروعين آخرين بحلول نهاية 2010، من بين عشرات المتقدمين، وهم عبارة عن تحالفات بين شركات مصرية وأجنبية. وكأن الحال فى مصر يخرج لسانه لتلك الدراسة التى قام بها البنك الدولى.

تعتمد الدراسة على قاعدة بيانات تضم نحو أربعة آلاف مشروع أقيم بهذا النظام فى مختلف أرجاء العالم. ورصدت أن قطاع الماء والصرف (يليه إنتاج الطاقة) كان صاحب النصيب الأكبر فى هروب القطاع الخاص من التزاماته. مشروع من كل عشرة مشروعات تم إلغاؤها كان فى قطاع الماء والصرف. وإجمالا ربع الاستثمارات الموجهة للمياه قد تم إلغاؤها بحلول 2006. الأرقام قد تفزعنا، ولكن ما يجب أن يفزعنا أكثر هو عدد البشر الذين حرموا من حقهم فى مياه نظيفة نتيجة لتخلى القطاع الخاص عن التزاماته.

البدائل لخصخصة المياه

دائما ما تطرح الحكومة سؤالا لتخرس به ألسنة المشككين. من أين لنا أن نوفر للمصريين الماء النظيف والصرف الصحى فى ظل وجود عجز دائم فى موارد الدولة؟ لا تقف معقود اللسان أمام السؤال. فميزة أن تبدأ من حيث انتهى العالم ألا تعيد أخطاءه.

كان عقد التسعينيات هو عقد خصخصة المياه حول العالم. قامت التجارب كلها على وعد بأن يقدم القطاع الخاص ماء نقيا بتكاليف أقل وبجودة أعلى من الهيئات الحكومية. إلا أن الفشل فى الوفاء بهذا الوعد كان عاملا مشتركا. حيث لوحظ أن القطاع الخاص يمد المياه إلى المناطق السكنية الأكثر قدرة على الدفع، حارما منها جيرانهم الأفقر. كما أنه كان يشجع الأغنياء على زيادة استهلاكهم من المياه لزيادة أرباحه على حساب الاعتبارات البيئية والتوزيع العادل للمياه. وخلال معارك استعادة مرافق المياه إلى يد الدولة، فقد بعض المواطنين حياتهم، إما بسبب انتشار الأمراض الناتجة عن سوء جودة الماء التى يقدمها القطاع الخاص، أو خلال اشتباكات مع الشرطة للدفاع عن حقهم فى ماء نظيف للجميع.

ونتاج مثل تلك النضالات أن شهد العالم تجارب بديلة ناجحة فى إدارة المياه. منها تحسين كفاءة الإدارة العامة، بعد استعادة المرفق من القطاع الخاص، كما انتهى الحال فى ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا. وفى أماكن أخرى جعلت البلدية من المواطنين وجمعيات حماية المستهلك رقباء على ميزانيات المرفق، كما فى أكثر من دولة فى أمريكا اللاتينية.

أو ولدت ابتكارات أكثر توافقا مع البيئة ومع احتياجات وإمكانات السكان، مثل تجربة منطقة تاميل نادو فى جنوب الهند والتى فيها التقى وعى العاملين بالمرفق بغضب الناس، ليصنعوا نموذجا ديمقراطيا، يقوم فيه السكان بتحديد أولوية من تصل إليه الماء أولا. حكايات أكثر من خمس وعشرين دولة، فى الشمال والجنوب، ضمها كتاب ملهم بعنوان «استعادة الملكية العامة للمياه، الماء للجميع.. الخدمات العامة للجميع». من الكتاب نلحظ فى كل القصص تكرار أسماء شركات عالمية كبرى بعينها. كما نكتشف أنه لا يوجد نموذج واحد لجعل المرافق العامة فى متناول الجميع. بل بدائل مختلفة، لنا أن ننتقى منها أو نصنع تجربتنا الخاصة.

هذا ما يسمح لنا به عالم ما بعد الأزمة الاقتصادية. أن نعيد التفكير فى المسلمات التى أفضت إلى الأزمة، أن نراجع أفكار المؤسسات الدولية. ومن هنا انتشرت مؤخرا، بين اقتصاديى السوق الحرة، تعبيرات مثل «الوضع الطبيعى الجديد» أو New Normal. أو تعبير أنه لا مكان لعبارة «أن يدار العمل كما هو معتاد» ــ «Business as usual».

وإذا كان ولابد، فهناك مشروعات شراكة عامة ــ خاصة فى مجالات أخرى من البنية الأساسية عواقبها أخف من قطاعى المياه والطاقة. فالمطارات، والموانئ، والطرق. كلها تسهل حساب تكاليفها، وبالتالى تسهل مراقبة أداء القطاع الخاص فيها. فالمطارات مثلا تخدم فئة من المجتمع ينصب اهتمامها على الجودة وقادرة على الدفع. إذا كان ولا بد، فلا تبدأ بالماء.

سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات