بركان الغضب - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 3:44 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بركان الغضب

نشر فى : السبت 16 سبتمبر 2023 - 9:05 م | آخر تحديث : السبت 16 سبتمبر 2023 - 9:05 م
قام بعض المواطنين الليبيين بتصوير أجواء منطقة المخيلى، التابعة لبلدية درنة شرق بنى غازى، وقد تحولت إلى اللون الأحمر الدموى، وظهرت مشاهد أخرى مرعبة خلال الأيام الماضية يحاول فيها المواطنون الهرب من إعصار دانيال وعلامات الفزع والغضب ترتسم على وجوههم، بينما اكتظت الشوارع بجثث الضحايا. هذه المشاهد وتلك التى رأيناها من قبل لآثار زلزال المغرب المدمر والناس تجرى وتحدق أعينهم بتحفز وحنق استدعت فى مخيلتى على الفور لوحة «الصرخة» للفنان التشكيلى النرويجى إدفارت مونك (1863 ــ 1944)، وكلماته التى أوردها بدفتر يومياته فى 22 يناير 1892 ليصف الظروف التى ألهمته إياها، إذ كتب: «كنت أسير على طريق ضيق بصحبة صديقين، عند غروب الشمس، وفجأة تحول لون السماء إلى أحمر دموى. توقفت من فرط التعب وارتكنت إلى سور، فشاهدت الدماء فى كل مكان وألسنة اللهب تعلو فوق الخليج البحرى الصغير الذى عُرفت به المدينة ومياهه الداكنة. استمر صديقى فى المشى، بينما ظللت أرتجف فى مكانى من شدة الهلع وسمعت صرخة مدوية انطلقت عبر الكون حتى شقت الطبيعة».
فسر فريق من النقاد هذا الكلام بأن الصرخة التى أراد الفنان تجسيدها فى اللوحة هى صرخة الطبيعة التى انتفضت غضبا، وأن الشخص الذى ظهر فيها وقد فتح فمه واستدار فكه واحتقن وجهه وتشنجت عضلاته كان مرعوبا من هول المشهد ومن شدة الصوت، لذا وضع يديه على أذنيه. وقد ذهب البعض إلى أنه يمثل الرسام نفسه وإحساسه وقتها. وذكر العلماء أن هذه الصرخة التى مزقت الطبيعة كانت على الأغلب بسبب تبعات اندلاع بركان «كراكاتو» بإندونسيا، الذى أحدث هزات أرضية متتالية امتدت لآلاف الكيلومترات وانتثر الغبار أو الرماد البركانى حتى وصل إلى النرويج. وهناك تحليلات أخرى استندت إلى حياة إدفارت مونك نفسه جاء فيها أنه عاش العديد من المآسى والأوجاع، إذ فقد أمه وهو فى الخامسة من عمره لإصابتها بداء السل، ثم لحقت بها أخته وهو فى الثالثة عشرة، ومن بعدها عانت أخته الثانية من اكتئاب حاد جعلها حبيسة مشفى الأمراض النفسية الذى كان يسكن إلى جواره، كما توفى أخوه قبل أيام قليلة من زواجه. هذه النهايات التراجيدية انعكست بالطبع على أعماله الفنية التى تناولت مشاعر القلق والخوف والغضب والألم، وكلها كفيلة بأن تجعل الإنسان يصرخ من كل قلبه ليعبر عن ما بداخله.
• • •
يوجد حول العالم خمس نسخ أصلية موقعة من هذه اللوحة التى اشتهرت كثيرا حتى تحولت فى الآونة الأخيرة إلى «إيموجى»، تلك الوجوه الصغيرة التى نضعها على شاشات المحمول والألواح الرقمية لتختصر مشاعرنا وحالاتنا النفسية. يتراوح تاريخ هذه النسخ بين 1893 و1917، ثلاث لوحات زيتية وواحدة بألوان الباستيل والخامسة نُفذت بطريقة الليتوجراف. كتب الفنان على طرف إحداها، الموجودة فى معرض النرويج الوطنى بأسلو: «لا يمكن أن يرسمها سوى مجنون»، فى إشارة إلى نفسه. أهمية «الصرخة» فنيا هى أنها تبرز فترة تحول من الأسلوب الرمزى إلى التعبيرية، وكانت قد سبقتها لوحة أخرى مماثلة بعنوان «اليأس»، ارتدى بطلها معطفا وقبعة سوداء، بدلا من الشخص الذى تدوى صرخته دون أن تتضح هويته أو تفاصيل ملابسه، كل ما نعرفه عنه هو أنه يتألم وغاضب ويصيح بعزم ما أوتى من قوة لكى يعبر عن حجم فجيعته، وهو ما شاهدناه على شاشات التليفزيونات أمام التهديدات التى تهطل علينا بغزارة.
• • •
أراقب الوجوه المختلفة فأجدها تشبه تلك التى رسمها مونك ولكن أيضا آخرون مثل مايكل أنجلو ( 1475 ــ 1564) فى اسكتش شهير له بعنوان «الغضب»، يُعرض فى متحف الأوفيزى بفلورنسا، ومنافسه ومواطنه ليوناردو دافنشى الذى انتمى كذلك لفترة النهضة حين رسم «دراسة لرأس شخص» خلال المرحلة الزمنية نفسها. استوقفنى اهتمام الأخيرين بالتشريح ودقته وبضرورة التعبير عن المشاعر التى كان يعدها سابقوهم ضمن النزعات الحيوانية. لأنه فى أثناء فترة النهضة صار من المقبول أن يصور الفنان تفاصيل الفم وهو يصرخ بصوت مرتفع لكى يعلن رفضه أو امتعاضه أو اعتراضه على ما يحدث. كان هذا اعترافا أن الغضب شعور وحق إنسانى، وأن الفم خُلق كى يأكل ويشرب ويتنفس ويتكلم ويعبر ويصيح ويعترض. لذا فالصرخة التى جاءت فى اللوحات السابق ذكرها وفى غيرها جمعت بين الثورة والخوف، وهى مشاعر لا تفارقنا على مر العصور، وربما كانت من شروط النهضة وأسبابها.
برع الفنانون خلال هذه الفترة فى تصوير شكل الرجل الغاضب وقد اتسعت عيناه وعض على شفته السفلى. نكاد نسمع صوت صرير أسنانه أو صياحه من بعيد طالبا العون. عضلات الجبين تتحرك إلى الداخل وإلى أسفل، وتنتفض عروق رقبته، وتنفرش فتحتا الأنف باستدارة.. تعبيرات فطرية يمكن ملاحظتها لدى الكبار والصغار حين يغضبون، تلازمها أعراض أخرى فسيولوجية مثل التعرق وتسارع ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم وزيادة تدفقه إلى اليدين، ربما تأهبا للضرب أو العنف. البعض يحاول كبح جماح الغضب، والبعض يترك العنان لمشاعره، وفريق ثالث يسعى لكبتها، ورابع يتأنى حتى لا «يعمى البصر» ويكتفى بإرسال إشارات تحذيرية للمحيطين به فيتوقف عند مراحل الاستياء والكدر والعبوس حتى هدوء العاصفة، لكن الغضب والخوف فى النهاية هما ضمن مشاعر أولية ضرورية لها قيمة وظيفية من أجل البقاء على قيد الحياة.
الطبيعة تغضب وتعلن عن ذلك. الحيوانات تغضب وتصدر أصواتا عالية أو تجعل شكلها الخارجى أكبر. الإنسان أيضا، رغم محاولاته لكى يبقى متحضرا، من المفيد أن يغضب أحيانا لكى يصحح بعض المسارات. يصرخ مثل أبطال اللوحات، ويتمرد على الواقع الذى تسبب له فى الخوف والألم أو عند الاعتقاد أنه لم تتم معاملته بشكل عادل ولائق ومحترم.
التعليقات