عن أهمية الكتابة العلمية للعامة - محمد زهران - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 11:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن أهمية الكتابة العلمية للعامة

نشر فى : الجمعة 15 مارس 2024 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 15 مارس 2024 - 7:25 م
أعتقد أن الكتب العلمية الموجهة للعامة هى من أقل الكتب المنشورة فى بلادنا العربية، وهذا الاعتقاد جاء من متابعتى للكتب التى تنشر عندنا لأن كاتب هذه السطور مدمن زيارة المكتبات لمتابعة كل جديد. منذ عدة سنوات كنت أتكلم مع مسئولة صفحة مراجعة الكتب العلمية فى جريدة النيويورك تايمز فى إحدى الفاعليات التى استضافتها الجامعة التى أعمل بها، وقالت إنهم يصلهم تقريبا أكثر من عشرين كتابا علميا موجها للعامة كل شهر، طبعا لا يكتبون عنها جميعا، بل يختارون منها الأفضل من وجهة نظرهم ليكتبوا عنها. إذا حاولنا معرفة سبب قلة تلك الكتب فى دولنا العربية مقارنة بأمريكا مثلا سنجد الآتى:
• الناس تقرأ فى وقت فراغها وبالتالى تريد شيئا سهلا ومسليا، وهذا يضع الكتابة السردية والروائية فى المقدمة وليست الكتب العلمية حتى وإن كانت موجهة للعامة.
• عدد من يكتبون فى الموضوعات العلمية الموجهة للعامة فى دولنا العربية قليل، وأغلبهم يلجأ للترجمة بدلا من التأليف.
• قد يحجم الناشرون عن هذا النوع من الكتب خوفا من الخسارة.
كنا قد تكلمنا عن الكتابة العلمية الموجهة للعامة فى مقالات سابقة وفى مقاطع متفرقة موزعة بين مقالات عدة، لكن الموضوع مهم وكذا التذكرة به والحث عليه. لذلك مقالنا اليوم يتحدث وبتفصيل عن الكتابة العلمية للعامة: ماهيتها وصفاتها وأهميتها.
الكتابة العلمية للعامة لها مكونان، الأول منهما معروف ومنطقى وهو المحتوى العلمى الذى نريد إيصاله للجمهور، المكون الثانى هو ما نغفل عنه فى أغلب الكتابات العلمية وهو حث القارئ على الإتيان بنشاط ما يفيده فى حياته بعد قراءة المقال، هذا النشاط قد يكون مجرد التفكر فى موضوع ما بطريقة جديدة أو تنمية التفكير النقدى أو أى عمل من شأنه إفادة القارئ وبالتالى المجتمع. فى هذا المقال سنتحدث عن المقالات العلمية، ولكن ما نقوله ينسحب أيضا على الكتب العلمية الموجهة للعامة.
نستطيع أن نتخيل الكتابة العلمية للعامة فى شكل مثلث: ضلعه الأول هو المتلقى والثانى هو المحتوى والثالث هو الكاتب.
...
لنبدأ بالمتلقى: لمن نتوجه بالمقالات العلمية؟ نتوجه بها للعامة والعامة تشمل غير المتخصص. الشخص قد يكون عالما فى تخصص ما، ولكنه من العامة فى تخصصات أخرى كثيرة. هذا من حيث تفسير العامة. لكن العامة تشمل أشخاصا من مراحل عمرية مختلفة: من الطفل الصغير وحتى كبير السن، ولكل مرحلة الطريقة المثلى للتحدث معها:
• الجيل الجديد وتشمل من الأطفال وحتى حديثى التخرج من الجامعة يعانون من قلة التركيز فى حين أن الجيل الأكبر سنا يمكنه قراءة مقال طويل.
• الجيل الجديد لا يقبل النصيحة المباشرة على عكس الأجيال الأكبر سنا وهذا يؤثر على طريقة الإتيان بالمكون الثانى للكتابة العلمية كما ذكرنا أعلاه.
• الجيل الجديد فى الأغلب عنده فضول أكثر من الأجيال الأكبر سنا، لذلك عندما نكتب مقالا علميا للأكبر سنا فيجب بذل مجهود أكبر فى إثارة فضول القارئ عن موضوع المقال.
هذا عن المتلقى، فماذا عن المحتوى؟
...
كاتب هذه السطور قد جلس فى مقعد التلمذة وهو على درجة أستاذ، وذلك فى كلية الصحافة فى جامعة نيويورك لدراسة عدة مقررات عن الصحافة العلمية، وقد كانت تجربة مفيدة جدا تكلمت عنها فى مقال سابق منذ عدة سنوات بعنوان «تجربة شخصية». بعد مرور سنوات عديدة على دراسة تلك المقررات وبعد كتابة مئات المقالات والتحدث مع الكثير من القراء، يمكننى تلخيص صفات المقال العلمى المميز الموجه للعامة كالآتى:
• يجب أن يمس المقال حياة القارئ بشكل ما، لا يكفى أن نقول إنه تم اختراع كذا فى معمل كذا، بل يجب شرح أهمية هذا الاختراع على الحياة اليومية للقارئ. العلم والتكنولوجيا هدفهما رفاهية البشر وحمايتهم من الأخطار، لذلك كل اكتشاف له فائدة على حياة الفرد سواء بطريق مباشر أو غير مباشر.
• يجب أن يكون المقال شيقا، الإنسان بطبعه يحب القصص لذلك عند التحدث عن اكتشاف علمى أو اختراع تكنولوجى يجب وضعه فى إطار روائى فنتحدث عن قصص أبطاله وتفاعلهم والمصاعب التى واجهوها إلخ.
• يجب أن يشجع المقال أو الكتاب القارئ على طرح الأسئلة والتفكر فى الموضوع، مثلا عن طريق إثارة أسئلة عن مستقبل هذا الاكتشاف أو ذاك أو تأثيره على التخصصات الأخرى.
لنتحدث سريعا عن الضلع الثالث لمثلث المقال العملى وهو الباحث.
...
يجب ألا نغفل نقطة فى غاية الأهمية: الباحث الذى يحاول تبسيط أبحاثه العلمية للعامة يستفيد هو الآخر من ذلك:
• التحدث للعامة يساعد الباحث على الوصول إلى دائرة أوسع من دائرة المؤتمرات والمجلات العلمية المتخصصة الضيقة، وهذا قد يساعد فى التعرف على والتواصل مع باحثين آخرين فى تخصصات مختلفة قد تؤدى فى المستقبل إلى أبحاث مشتركة، والعلم الحديث يعتمد على تكامل علوم من تخصصات مختلفة.
• عندما ينشر الباحث علمه على نطاق واسع فإنه قد يصل إلى شركات أو مؤسسات تهتم بنتائج هذا البحث وبالتالى تكون على استعداد لتمويله.
• عندما يتعرف العامة على نتائج بحث ما سواء علمى أو تكنولوجى فإنهم يسألون أسئلة أو يعطون ملاحظات قد تساعد الباحث فى تحسين بحثه أو فى أبحاثه المستقبلية أو فى التعرف على المشكلات أو الصعوبات التى يواجهها الناس فى حياتهم مما قد يوجه الباحث نحو ناحية جديدة فى مشروعه البحثى.
بعد أن تحدثنا عن أهمية العلم الموجه للعامة ماذا عسانا أن نستفيد من ذلك فى بلادنا؟
...
أعتقد أن أهم شىء يمكن أن تفيدنا فيه الكتابة العلمية للعامة هو أمر قد يكون مفاجئا للبعض وهو الكتب المدرسية. الكتاب المدرسى يعطى المعلومة للتلميذ بشكل مبسط وبالتالى فإنه يشبه الكتب العلمية الموجهة للعامة. هناك عدة أشياء يجب أن نضعها فى الاعتبار عندما يتعرض الأمر للكتاب المدرسى:
• يجب على الكتب المدرسية أن تجعل المعلومة شيقة وتدفع الطالب لحب العلم وبناء عقلية نقدية.
• يجب نضع فى اعتبارنا أن هناك فارقا كبيرا بين معرفة الشىء ومعرفة اسم الشىء. انظر إلى كتب الفيزياء المدرسية مثلا هل تشرح بدقة معنى كلمة «الطاقة» أم تكتفى بإعطاء أمثلة؟ أو معنى التيار الكهربى؟
• الكتاب المدرسى يخاطب جيلا جديدا يختلف عن أجيالنا، فهل مؤلف الكتاب المدرسى مؤهل لذلك؟
• العلم والتكنولوجيا بها الجديد كل سنة، فكم مرة يتم تحديث الكتاب المدرسى على الأقل الكتب العلمية منها؟
النقطة الأخيرة فى الكتابة العلمية للعامة هى أن يتأكد الباحث من المعلومة التى يعطيها للقارئ، التبسيط مطلوب لكن فى بعض الأحيان التبسيط الزائد وفكرة أن العامة ستقبل أى شىء سيؤدى إلى معلومات خاطئة وقد رأينا مثالا فى كتب علمية موجهة للعامة مثل كتاب (Quantum Supremacy) أو «التفوق الكمى» للفيزيائى ميكو كاكو (Michio Kaku) والملىء بالأخطاء العلمية الكبيرة.
الكتابة العلمية الموجهة للعامة هى من دعائم بناء الدول المتقدمة لأنها تخلق مجتمعا علميا ولا أعنى بذلك مجتمعا من العلماء لكن مجتمعا يفكر أفراده تفكيرا نقديا، فلنشجع الكتابة العلمية.
محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات