كَذِبَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 4:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كَذِبَة

نشر فى : الجمعة 14 أكتوبر 2022 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 14 أكتوبر 2022 - 7:25 م

في جزء من الثانية احتكت مقدمة السيارة بجانب زميلتها علي طريق هادئ خاو، وفي اللحظة التالية خرج أحد السائقين محتدا يتساءل عما حدا بزميله للارتطام به. جاءت الإجابة بلا تفكير: لم أفعل إنما هي السيارة التي أقودها. لم يكن الرد منطقيا بالمرة؛ لكنه أيضا لم يكن بدافع الاستهزاء أو الاستفزاز، ولا كان حتي كذبة ساذجة بلهاء؛ إنما جاء في تلقائية مُبهرة ليؤكد حدوث واقعةٍ مجردة؛ ليس من سياقها فقط، بل من كل ما يجعل لأفعالنا كبشر معني.
• • •
في حيواتنا كذبات كثيرة نتعلم بناءها وإتقانها منذ نعي الدنيا حولنا، وندرك أن علينا التكيف وسط عالم فيه المنغصات مثلما فيه المسرات، وأن لكل مَسلك نختاره ثوابا وعقابا، وأن بعض المرات تكون في الكذب نجاة وإن وقتية، ويكون اتباع الصدق من الصعوبة بمكان.
• • •
ثمة كذبة صغيرة وأخرى كبيرة. كذبة ذات وزن وكذبة تافهة، واحدة بيضاء وثانية سوداء، ثم ثالثة رمادية؛ تقف في منطقة وسطي لا تجد الترحيب ولا تُقابل بما وجب من الرفض والتنديد. الأنواع كلها تصب في بوتقة واحدة؛ لكن رد الفعل تجاهها يختلف باختلاف الظرف، وبالنظر إلي ما يتبعه من نتائج.
• • •
كذب المنجمون ولو صدقوا؛ والقصد أنهم لا يملكون اليقين وإن تحققت نبوءاتهم، ولا يتمكنون من فرض توقعاتهم وتخميناتهم، ربما يستنبطون ويستنتجون ويتبعون الأدلة والإشارات التي يغمض عنها الناس، لكن هذا كله لا يمنع احتمالات الإخفاق.
• • •
كانت كذبة أبريل من المناسبات التي لا نتركها تمر- ونحن بعد صغار- دون أن ندبر مقلبا أو نبتدع حيلة، ينتهي الموقف بضحكات تطفر لها من أعيُننا الدموع، ولا يكاد أثرها يمضي حتي نفكر في أخرى للعام القادم. توقفت العادة مع تقدم العمر، وأظنها لم تعد علي خريطة التقاليد الطفولية المتينة، إنما فَتُرَت تدريجيا وتلاشت ولم تعد لها الجاذبية التي أغوتنا من قبل؛ فالكذبات من حولنا قد توالدت غيوما كثيفة، واستوت جبالا شاهقة، وتحول العالم بإفك المتحكمين فيه إلي مستنقعٍ ناضحٍ بالروائح الآسنة.
• • •
إذا قيل في سياق التبرير: كذبة تفوت ولا حد يموت؛ فالمعني أن ثمة كذبة غير مؤذية ستنجز غرضا ثم ينقضي الأمر وتمضي الحياة بلا ضرر، والحق أن الضرر واقع وإن لم يظهر في حينه. مِن الناس مَن يكذب ثم يعيش كذبته ويصدقها ويبني دنياه عليها؛ لكن هذا البنيان يظل ولا شك ضعيفا مهلهلا ومُعرضا للسقوط، لا يحتمل هزة ولا يصمد أمام ريح، فإذا انهار كان انهياره مدويا، والمأثور الشعبي يؤكد أن الكذب ليست له قدمان، فالكذبة الواحدة تؤدي إلي كذبات كثيرة متعاقبة، يكون الغرض ستر الأولى، فتأتي الثانية غطاء وحِجابا، لكن التراجع يصبح أصعب وأشق علي النفس بعدد المرات التي دُفنت فيها الحقيقة.
• • •
الكذبة في قواميس اللغة العربية هي المَرةُ الواحدة من الفعل كَذبَ أي قال ما ليس من الحقيقة، والكذاب بتشديد الذاي هو الشخص غزير الكذب؛ لا يؤمن جانبه، ولا يوثق فيه. لطالما سمعت من جدتي كلما صادفت من جافي الصدق حديثه هذا الوصف: كذاب في أصل وشه. لم أعرف أصل العبارة علي وجه الدقة، وإن تصورت دوما أنها تكني فداحة الكذب وفحشه وجلاء حقيقته.
• • •
قيل قديما إن أعذب الشعر أكذبه؛ أي كلما تفرعت الصور واستحكم المجاز ومضي البناء الشعري بعيدا عن أرض الواقع، كلما ازداد جمالا، فلقي القبول في الأسماع، وروي الأرواح وطيب الخواطر.
• • •
يبدو الكذب في غالب المجتمعات الشرقية أمرا عاديا، لا يستحق آهات الدهشة ولا يستوجب اتساع العينين وفغر الفاه؛ خاصة إن جاء من صاحب سلطة ونفوذ، يملك حق اختراع ما شاء من أقوال دون أن يُحاسب عليها. تمدد الداء فطال مجتمعات كانت تنبذه نبذا، وتوطن بين حدود لم تكن تعرفه ولا حتي تفهمه، ثم تحول إلي دين جديد، يتبعه الناس ويبشر به المُريدون؛ تلك الكذبة رؤية مختلفة، وهذه إنما تأتي من زاوية مُناوئة، وهذه ولا شك حقيقة إنما من منظور جديد. تعددت الأوصاف والمَوصُوف واحد.
• • •
تحولت قصة إحسان عبدالقدوس "أنا لا أكذب ولكني أتجمل" إلي فيلم ذي مذاق متميز، أدي فيه دور البطولة العبقري الراحل أحمد زكي. التجمل في حد ذاته فعل لا يمكن أن يُؤاخذ عليه شخص ما عرف به الآخرون. هذه فلانة قد جملت وجهها وغيرت ملامحها والكل يعي ما صنعت، وهذا فلان قد أصلح عيبه ورمم عضلاته والكل دارٍ بما صنع. يتواصل الحديث بين مؤيد معجب ونافرٍ كاره، لكن الأمر يبقي في إطار المشروع، طالما لم يُخفِ صاحبه ما صنع ولا ادعي ما لم يصنع.
• • •
إذا انتشرت شائعة فأثارت البلبلة بين الناس؛ صدر تكذيب لها، وجرت العادة أن نقول: ما مِن دخان بلا نار. إن جاء تكذيب في صباح من الصباحات، تلاه توكيد في الظهيرة، وعند المساء يُري اللهب؛ يلتهم الشكوك ويخلِف الرماد.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات